لما نبههم نوح - عليه السلام - على الفكر في أنفسهم ، وكيف انتقلوا من حال إلى حال ، وكانت الأنفس أقرب ما يفكرون فيه منهم ، أرشدهم إلى الفكر في العالم علوه وسفله ، وما أودع تعالى فيه ، أي : في العالم العلوي من هذين النيرين اللذين بهما قوام الوجود . وتقدم شرح ( طباقا ) في سورة الملك ، والضمير في ( فيهن ) عائد على السماوات ، ويقال : القمر في السماء الدنيا ، وصح كون السماوات ظرفا للقمر ; لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف . تقول : زيد في المدينة ، وهو في جزء منها ، ولم تقيد الشمس بظرف ، فقيل : هي في الرابعة ، وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة ، وفي الصيف في السابعة ، وهذا شيء لا يوقف على معرفته إلا من علم الهيئة . ويذكر أصحاب هذا العلم أنه يقوم عندهم البراهين القاطعة على صحة ما يدعونه ، وأن في معرفة ذلك دلالة واضحة على عظمة الله وقدرته وباهر مصنوعاته . ( سراجا ) يستضيء به أهل الدنيا ، كما يستضيء الناس بالسراج في بيوتهم ، ولم يبلغ القمر مبلغ الشمس في الإضاءة ; ولذلك جاء هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ، والضياء أقوى من النور . والإنبات استعارة في الإنشاء ، أنشأ آدم من الأرض وصارت ذريته منه ، فصح نسبتهم كلهم إلى أنهم أنبتوا منها . وانتصاب ( نباتا ) بـ ( أنبتكم ) مصدرا على حذف الزائد ، أي إنباتا ، أو على إضمار فعل ، أي : فنبتم نباتا . وقال : المعنى أنبتكم فنبتم ، أو نصب بـ ( أنبتكم ) لتضمنه معنى نبتم . انتهى . ولا أعقل معنى هذا الوجه الثاني الذي ذكره . ( الزمخشري ثم يعيدكم فيها ) أي : يصيركم فيها مقبورين ( ويخرجكم إخراجا ) أي : يوم القيامة ، وأكده بالمصدر ، أي : ذلك واقع لا محالة . ( بساطا ) تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه . وظاهره أن الأرض ليست كروية ، بل هي مبسوطة ( سبلا ) : طرقا ( فجاجا ) : متسعة ، وتقدم الكلام على الفج في سورة [ ص: 341 ] الحج . ولما أصروا على العصيان وعاملوه بأقبح الأقوال والأفعال ( قال نوح رب إنهم عصوني ) : الضمير للجميع ، وكان قد قال لهم : ( وأطيعون ) وكان قد أقام فيهم ما نص الله تعالى عليه ( ألف سنة إلا خمسين عاما ) وكانوا قد وسع عليهم في الرزق بحيث كانوا يزرعون في الشهر مرتين . ( واتبعوا ) أي : عامتهم وسفلتهم ، إذ لا يصح عوده على الجميع في عبادة الأصنام . ( من لم يزده ) أي : رؤساؤهم وكبراؤهم ، وهم الذين كان ما تأثلوه من المال وما تكثروا به من الولد سببا في خسارتهم في الآخرة ; وكان سبب هلاكهم في الدنيا . وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي ، والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير وأبو عمرو ونافع ، في رواية خارجة : ( وولده ) بضم الواو وسكون اللام . والسلمي والحسن أيضا ، وأبو رجاء وابن وثاب وأبو جعفر ، وشيبة ونافع وعاصم وابن عامر : بفتحهما ، وهما لغتان ، كـ ( بخل وبخل ) . والحسن أيضا والجحدري وقتادة وزر ، وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ، في رواية : كسر الواو وسكون اللام . وقال أبو حاتم : يمكن أن يكون الولد بالضم جمع الولد ، كخشب وخشب ، وقد قال : حسان بن ثابت
يا بكر آمنة المبارك بكرها من ولد محصنة بسعد الأسعد
( ومكروا ) : يظهر أنه معطوف على صلة ( من ) ، وجمع الضمير في ( ومكروا ) ( وقالوا ) على المعنى . ومكرهم : احتيالهم في الدين وتحريش الناس على نوح - عليه السلام . وقرأ الجمهور : ( كبارا ) بتشديد الباء ، وهو بناء فيه مبالغة كثير . قال عيسى بن عمر : هي لغة يمانية ، وعليها قول الشاعر :
والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء
( وقول الآخر ) :
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي بالحسن قلب المسلم القراء
ويقال : حسان وطوال وجمال . وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال : بخف الباء ، وهو بناء مبالغة . وقرأ زيد بن علي وابن محيصن ، فيما روى عنه أبو الأخيرط وهب بن واضح : ( كبارا ) ، بكسر الكاف وفتح الباء . وقال : هو جمع كبير ، كأنه جعل مكرا مكان ذنوب أو أفاعيل . انتهى ، يعني فلذلك وصفه بالجمع . ( وقالوا ) أي : كبراؤهم لأتباعهم ، أو قالوا ، أي : جميعهم بعضهم لبعض ( ابن الأنباري لا تذرن ) : لا تتركن ( آلهتكم ) أي : أصنامكم ، وهو عام في جميع أصنامهم ، ثم خصوا بعد أكابر أصنامهم ، وهو ود وما عطف عليه . وروي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الزمان . قال : كانوا بني عروة بن الزبير آدم ، وكان ود أكبرهم وأبرهم به . وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس : كانوا بني آدم و نوح - عليهما السلام - ماتوا فصورت أشكالهم لتذكر أفعالهم الصالحة ، ثم هلك من صورهم وخلف من يعظمها ، ثم كذلك حتى عبدت . قيل : ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها . وقيل : بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب . فكان ود لكلب بدومة الجندل ، وسواع لهذيل ، وقيل : لهمدان ، ويغوث لمراد ، وقيل : لمذحج ، ويعوق لهمدان ، وقيل : لمراد ، ونسر لحمير ، وقيل : لذي الكلاع من حمير . ولذلك سمت العرب بعبد ود وعبد يغوث . وما وقع من هذا الخلاف في سواع ويغوث ويعوق يمكن أن يكون لكل واحد منهما صنم يسمى بهذا الاسم ، إذ يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام ، فإنما بقيت الأسماء فسموا أصنامهم بها . قال : رأيت يغوث ، وكان من رصاص ، يحمل على جمل أجرد يسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك ، فإذا برك نزلوا وقالوا : قد رضي لكم المنزل ، فينزلون حوله ويضربون له بناء . انتهى . وقال أبو عثمان النهدي الثعلبي : كان يغوث لكهلان من سبأ ، يتوارثونه حتى صار في همدان ، وفيه يقول مالك بن نمط الهمداني :
[ ص: 342 ]
يريش الله في الدنيا ويبري ولا يبري يغوث ولا يريش
وقال الماوردي : ود اسم صنم معبود . سمي ودا لودهم له . انتهى . وقيل : كان ود على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر ، وهذا مناف لما تقدم من أنهم صوروا صور ناس صالحين . وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة ، بخلاف عنهم : ودا ، بضم الواو . والحسن والأعمش وطلحة وباقي السبعة بفتحها ، قال الشاعر :
حياك ود فإنا لا يحل لنا لهو النساء وأن الدين قد عزما
( وقال آخر ) :
فحياك ود من هواك لقيته وخوص بأعلى ذي طوالة هجد
قيل : أراد ذلك الصنم . وقرأ الجمهور : ( ولا يغوث ويعوق ) بغير تنوين ، فإن كانا عربيين ، فمنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وإن كانا عجميين ، فللعجمة والعلمية . وقرأ الأشهب : ولا ( يغوثا ويعوقا ) بتنوينهما . قال صاحب اللوامح : جعلهما فعولا ، فلذلك صرفهما . فأما في العامة فإنهما صفتان من الغوث والعوق بفعل منهما ، وهما معرفتان ، فلذلك منع الصرف لاجتماع الفعلين اللذين هما تعريف ومشابهة الفعل المستقبل . انتهى ، وهذا تخبيط . أما أولا ، فلا يمكن أن يكونا فعولا ; لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق . وأما ثانيا ، فليسا بصفتين من الغوث والعوق ; لأن يفعلا لم يجئ اسما ولا صفة ، وإنما امتنعا من الصرف لما ذكرناه . وقال ابن عطية : وقرأ : ( ولا يغوثا ويعوقا ) بالصرف ، وذلك وهم ; لأن التعريف لازم ووزن الفعل . انتهى . وليس ذلك بوهم ، ولم ينفرد الأعمش بذلك ، بل قد وافقه الأعمش الأشهب العقيلي على ذلك ، وتخريجه على أحد الوجهين ، أحدهما : أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب ، وذلك لغة وقد حكاها وغيره . والثاني : أنه صرف لمناسبة ما قبله وما بعده من المنون ، إذ قبله ( الكسائي ودا ولا سواعا ) وبعده ( ونسرا ) كما قالوا في صرف ( سلاسلا ) و ( قواريرا قواريرا ) لمن صرف ذلك للمناسبة . وقال : وهذه قراءة مشكلة ; لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ففيهما منع الصرف ، ولعله قصد الازدواج فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات ( ودا وسواعا ونسرا ) كما قرئ : ( وضحاها ) بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواج . انتهى . وكان الزمخشري لم يدر أن ثم لغة لبعض العرب تصرف كل ما لا ينصرف عند عامتهم ، فلذلك استشكلها . الزمخشري
( وقد أضلوا ) أي : الرؤساء المتبوعون ( كثيرا ) : من أتباعهم وعامتهم ، وهذا إخبار من نوح - عليه السلام - عنهم بما جرى على أيديهم من الضلال . وقال الحسن : ( وقد أضلوا ) أي : الأصنام ، عاد الضمير عليها كما يعود على العقلاء ، كقوله تعالى : ( رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ) ويحسنه عوده على أقرب مذكور ، ولكن عوده على الرؤساء أظهر ، إذ هم المحدث عنهم ، والمعنى فيهم أمكن . ولما أخبر أنهم قد ضلوا كثيرا ، دعا عليهم بالضلال ، فقال : ( ولا تزد ) : وهي معطوفة على ( وقد أضلوا ) إذ تقديره : وقال وقد أضلوا كثيرا ، فهي معمولة لـ ( قال ) المضمرة المحكي بها قوله : ( وقد أضلوا ) ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، بل قد يعطف ، جملة الإنشاء على جملة الخبر ، والعكس ، خلافا لمن يدعي التناسب . وقال ما ملخصه : عطف ( ولا تزد ) على ( الزمخشري رب إنهم عصوني ) أي : قال هذين القولين . ( إلا ضلالا ) قال : ( فإن قلت ) : كيف جاز أن يريد لهم الضلال ويدعو [ ص: 343 ] الله بزيادته ؟ ( قلت ) : المراد بالضلال أن يخذلوا ويمنعوا الألطاف ; لتصميمهم على الكفر ووقوع اليأس من إيمانهم ، وذلك حسن جميل يجوز الدعاء به ، بل لا يحسن الدعاء بخلافه . انتهى ، وذلك على مذهب الاعتزال . قال : ويجوز أن يراد بالضلال الضياع والهلاك ، كما قال : ( الزمخشري ولا تزد الظالمين إلا تبارا ) . وقال ابن بحر : ( إلا ضلالا ) : إلا عذابا ، قال كقوله : ( إن المجرمين في ضلال وسعر ) . وقيل : إلا خسرانا . وقيل : إلا ضلالا في أمر دنياهم وترويج مكرهم وحيلهم .
وقرأ الجمهور : ( مما خطيئاتهم ) جمعا بالألف والتاء مهموزا . وأبو رجاء كذلك ، إلا أنه أبدل الهمزة ياء وأدغم فيها ياء المد . و الجحدري وعبيد ، عن أبي عمرو : على الإفراد مهموزا . والحسن وعيسى : بخلاف عنهم . والأعرج وأبو عمرو : خطاياهم جمع تكسير ، وهذا إخبار من الله تعالى للرسول - عليه الصلاة والسلام - بأن دعوة نوح - عليه السلام - قد أجيبت . وما زائدة للتوكيد . و ( من ) قال ابن عطية : لابتداء الغاية ، ولا يظهر إلا أنها للسبب . وقرأ عبد الله : من خطيئاتهم ما أغرقوا ، بزيادة ( ما ) بين أغرقوا وخطيئاتهم . وقرأ الجمهور : ( أغرقوا ) بالهمزة . : غرقوا بالتشديد وكلاهما للنقل ، وخطيئاتهم الشرك وما انجر معه من الكبائر ( وزيد بن علي فأدخلوا نارا ) أي : جهنم ، وعبر عن المستقبل بالماضي لتحققه ، وعطف بالفاء على إرادة الحكم ، أو عبر بالدخول عن عرضهم على النار غدوا وعشيا ، كما قال : ( النار يعرضون عليها ) . قال : أو أريد عذاب القبر . انتهى . وقال الزمخشري الضحاك : كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب .
( فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ) تعريض بانتفاء قدرة آلهتهم عن نصرهم ، ودعاء نوح - عليه السلام - بعد أن أوحي إليه أنه ( لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) قاله قتادة . وعنه أيضا : ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله كل مؤمن من الأصلاب ، وأعقم أرحام نسائهم ، وهذا لا يظهر لأنه قال : ( إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ) الآية ، فقوله : ( ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم ، وقاله أيضا محمد بن كعب والربيع ، وابن زيد ، ولا يظهر كما قلنا ، وقد كان قبل ذلك طامعا في إيمانهم عاطفا عليهم . وفي الحديث : . ( وديارا ) : من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه ، ووزنه فيعال ، أصله ديوار ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت ، ويقال : منه دوار ووزنه فعال ، وكلاهما من الدوران ، كما قالوا : قيام وقوام ، والمعنى معنى أحد . وعن " أنه ربما ضربه ناس منهم أحيانا حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون " : من سكن دارا . وقال السدي : وهو فيعال من الدور أو من الدار . انتهى . والدار أيضا من الدور ، وألفها منقلبة عن واو . ( الزمخشري ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) : وصفهم وهم حالة الولادة بما يصيرون إليه من الفجور والكفر . ولما دعا على الكفار ، استغفر للمؤمنين ، فبدأ بنفسه ثم بمن وجب بره عليه ، ثم للمؤمنين ، فكأن هو ووالداه اندرجوا في المؤمنين والمؤمنات . وقرأ الجمهور : ( ولوالدي ) ، والظاهر أنهما أبوه لمك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش . وقيل : هما آدم وحواء . وقرأ ابن جبير والجحدري : ( ولوالدي ) بكسر الدال ، فإما أن يكون خص أباه الأقرب ، أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام . وقال : لم يكفر لـ ابن عباس نوح عليه السلام أب ما بينه وبين آدم عليه السلام . وقرأ الحسين بن علي ويحيى بن يعمر والنخعي ، والزهري : ( ولولداي ) تثنية ولد ، يعني وزيد بن علي ساما وحاما . ( ولمن دخل بيتي ) قال والجمهور : مسجدي . وعن ابن عباس أيضا : شريعتي ، استعار لها بيتا ، كما قالوا : قبة الإسلام وفسطاطه . وقيل : سفينته . وقيل : داره . ( ابن عباس وللمؤمنين والمؤمنات ) دعا لكل مؤمن ومؤمنة في كل أمة . والتبار : الهلاك .