( فأما الإنسان     ) ذكر تعالى ما كانت قريش  تقوله وتستدل به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده ، فيرون المكرم من عنده الثروة والأولاد ، والمهان ضده ، ولما كان هذا غالبا عليهم وبخوا بذلك . والإنسان اسم جنس ، ويوجد هذا في كثير من أهل الإسلام . وقال  الزمخشري    : فإن قلت : بم اتصل قوله : ( فأما الإنسان    ) ؟ قلت : بقوله : ( إن ربك لبالمرصاد     ) كأنه قال : إن الله تعالى لا يريد من الإنسان إلا الطاعة والسعي للعاقبة  ، وهو مرصد للعاصي ، فأما الإنسان فلا يريد ذلك ولا يهمه إلا العاجلة وما يلذه وينعمه فيها . انتهى . وفيه التصريح بمذهب الاعتزال في قوله : لا يريد من الإنسان إلا الطاعة . وإذا العامل فيه ( فيقول ) والنية فيه التأخير ، أي : فيقول كذا وقت الابتداء ، وهذه الفاء لا تمنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وإن كانت فاء دخلت في خبر المبتدأ لأجل أما التي فيها معنى الشرط ، وبعد أما الثانية مضمر به وقع التوازن بين الجملتين تقديره : فأما إذا هو ما ابتلاه ، وفيقول خبر عن ذلك المبتدأ المضمر ، وابتلاه معناه : اختبره ، أيشكر أم يكفر إذا بسط له ؟ وأيصبر أم يجزع إذا ضيق عليه ؟ لقوله تعالى : ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة    ) . وقابل ( ونعمه ) بقوله : ( فقدر عليه رزقه     ) ولم يقابل ( فأكرمه ) بلفظ ( فأهانه ) ، لأنه ليس من يضيق عليه الرزق ، كان ذلك إهانة له ، ألا ترى إلى ناس كثير من أهل الصلاح مضيقا عليهم الرزق كحال الإمام أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني  رضي الله تعالى عنه وغيره ، وذم الله تعالى العبد في حالتيه هاتين . 
أما في قوله : ( فيقول ربي أكرمن     ) فلأنه إخبار منه على أنه يستحق الكرامة ويستوجبها . وأما قوله : ( أهانن ) فلأنه سمى ترك التفضيل من الله تعالى إهانة وليس بإهانة ، أو يكون إذا تفضل عليه أقر بإحسان الله إليه ، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك تفضل الله إهانة ، لا إلى الاعتراف بقوله : ( أكرمن ) . وقرأ ابن كثير    : ( أكرمني وأهانني ) بالياء فيهما ، ونافع    : بالياء وصلا وحذفها وقفا ، وخير في الوجهين أبو عمرو  ، وحذفها باقي السبعة فيهما وصلا ووقفا ، ومن حذفها وقفا سكن النون فيه . وقرأ الجمهور : ( فقدر ) بخف الدال ، وأبو جعفر  ، وعيسى  ، وخالد  ، والحسن  بخلاف عنه ، وابن عامر    : بشدها . قال الجمهور : هما بمعنى واحد ، بمعنى ضيق ، والتضعيف فيه للمبالغة لا للتعدي ، ولا يقتضي   [ ص: 471 ] ذلك قول الإنسان ( أهانن ) لأن إعطاء ما يكفيه لا إهانة فيه . ( كلا ) رد على قولهم ومعتقدهم ، أي ليس إكرام الله وتقدير الرزق سببه ما ذكرتم ، بل إكرامه العبد تيسيره لتقواه ، وإهانته : تيسيره للمعصية ، ثم أخبرهم بما هم عليه من أعمالهم السيئة . وقال  الزمخشري    : ( كلا ) ردع للإنسان عن قوله ، ثم قال : بل هنا شر من هذا القول ، وهو أن الله تعالى يكرمهم بكثرة المال ، فلا يؤدون فيها ما يلزمهم من إكرام اليتيم بالتفقد والمبرة وحض أهله على طعام المسكين ويأكلونه أكل الأنعام ويحبونه فيشحون به . انتهى . وفي الحديث :   ( أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه يتيم مكرم )   . وقرأ الحسن  ، و مجاهد  ، وأبو رجاء  ، و قتادة  ، والجحدري  وأبو عمر    : ( يكرمون ، ولا يحضون ، ويأكلون ، ويحبون ) بياء الغيبة فيها ، وباقي السبعة بتاء الخطاب ، وأبو جعفر  وشيبة  والكوفيون وابن مقسم    : ( تحاضون ) بفتح التاء والألف أصله تتحاضون ، وهي قراءة  الأعمش  ، أي يحض بعضكم بعضا ، وعبد الله  أو علقمة وزيد بن علي   وعبد الله بن المبارك  والشيرازي  عن  الكسائي    : كذلك إلا أنهم ضموا التاء ، أي ( تحاضون ) أنفسكم ، أي بعضكم بعضا ، وتفاعل وفاعل يأتي بمعنى فعل أيضا ( على طعام    ) يجوز أن يكون بمعنى إطعام ، كالعطاء بمعنى الإعطاء ، والأولى أن يكون على حذف مضاف ، أي على بذل طعام . 
( وتأكلون التراث     ) كانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد ، فيأكلون نصيبهم ويقولون : لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمي الحوزة ، والتراث تاؤه بدل من واو ، كالتكلة والتخمة من توكلت ووخمت . وقيل : كانوا يأكلون ما جمعه الميت من الظلمة وهم عالمون بذلك يجمعون بين الحلال والحرام ويسرفون في إنفاق ما ورثوه ؛ لأنهم ما تعبوا في تحصيله ، كما شاهدنا الوراث البطالين . ( كلا ) ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم ، ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا فيه في دار الدنيا . ( دكا دكا    ) حال كقولهم : بابا بابا ، أي مكررا عليهم الدك ( وجاء ربك     ) قال القاضي  منذر بن سعيد    : معناه ظهوره للخلق هنالك ، وليس بمجيء نقلة ، وكذلك مجيء الطامة والصاخة ، وقيل : وجاء قدرته وسلطانه ، وقال  الزمخشري    : هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبيين آثار قدرته وسلطانه ، مثلت حاله في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر بحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره كلها ووزرائه وخواصه . انتهى . والملك اسم جنس يشمل الملائكة ، وروي أنه ملائكة كل سماء تكون صفا حول الأرض في يوم القيامة ، قال  الزمخشري    : ( صفا صفا    ) تنزل ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالجن والإنس . انتهى . 
( وجيء يومئذ بجهنم     ) كقوله تعالى : ( وبرزت الجحيم لمن يرى    ) ، ( يومئذ ) بدل من ( إذا ) قال  الزمخشري    : وعامل النصب فيهما يتذكر . انتهى . ظاهر كلامه أن العامل في البدل هو العامل نفسه في المبدل منه ، وهو قول قد نسب إلى  سيبويه  ، والمشهور خلافه ، وهو أن البدل على نية تكرار العامل ، أي يتذكر ما فرط فيه ( وأنى له الذكرى    ) أي منفعة الذكرى ؛ لأنه وقت لا ينفع فيه التذكر ، لو اتعظ في الدنيا لنفعه ذلك في الأخرى ، قاله الجمهور . قال  الزمخشري  وغيره : أو وقت حياتي في الدنيا ، كما تقول : جئت لطلوع الشمس ولتاريخ كذا وكذا . وقال قوم : لحياتي في قبري ، يعني الذي كنت أكذب به . قال  الزمخشري    : وهذا أبين دليل على أن الاختيار كان في أيديهم ومعلقا بقصدهم وإرادتهم ، وأنهم لم يكونوا محجورين عن الطاعات مجبرين على المعاصي ، كمذهب أهل الأهواء والبدع ، وإلا فما معنى التحسر ؟ انتهى . وهو على طريقة الاعتزال . 
وقرأ الجمهور : ( لا يعذب ) ، ( ولا يوثق ) مبنيين للفاعل ، والضمير في ( عذابه ) ، و ( وثاقه ) عائد على الله تعالى ، أي لا يكل عذابه ولا وثاقه إلى أحد ؛ لأن الأمر لله وحده في ذلك ، أو هو من الشدة في حيز لم يعذب قط أحد في الدنيا مثله ، والأول أوضح   [ ص: 472 ] لقوله : لا يعذب ، ولا يوثق ، ولا يطلق على الماضي إلا بمجاز بعيد ، بل موضوع لا إذا دخلت على المضارع أن يكون مستقبلا ، ويجوز أن يكون الضمير قبلها عائدا على الكافر ، أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه . وقيل إلى الله ، أي لا يعذب أحد في الدنيا عذاب الله للكافر ، ويضعف هذا عمل ( لا يعذب ) في ( يومئذ ) ، وهو ظرف مستقبل ، وقرأ  ابن سيرين  ، وابن أبي إسحاق  ،  وسوار القاضي  ، وأبو حيوة  ،  وابن أبي عبلة  ،  وأبو بحرية  ، وسلام  ،  والكسائي  ، ويعقوب  ، وسهل  ، عن أبي عمرو    : بفتح الذال والثاء مبنيين للمفعول ، فيجوز أن يكون الضمير فيهما مضافا للمفعول وهو الأظهر ، أي لا يعذب أحد مثل عذابه ، ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه ، أو لا يحمل أحد عذاب الإنسان لقوله تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى    ) ، وعذاب وضع موضع تعذيب ، وفي اقتباس مثل هذا خلاف ، وهو أن يعمل ما وضع لغير المصدر ، كالعطاء والثواب والعذاب والكلام ، فالبصريون لا يجيزونه ويقيسونه ، وقرأ أبو جعفر  وشيبة  ونافع  بخلاف عنهم : ( وثاقه ) بكسر الواو ، والجمهور : بفتحها ، والمعذب هو الكافر على العموم ، وقيل : هو أمية بن خلف    . وقيل : أبي بن خلف    . وقيل : المراد به إبليس ، وقام الدليل على أنه أشد من الناس عذابا ، ويدفع القول هذا قوله : ( يومئذ يتذكر الإنسان    ) ، والضمائر كلها مسوقة له ، ولما ذكر تعالى شيئا من أحوال من يعذب ذكر شيئا من أحوال المؤمن فقال : ( ياأيتها النفس    ) وهذا النداء الظاهر أنه على لسان ملك ، وقرأ الجمهور : بتاء التأنيث ، وقرأ  زيد بن علي    : ( يا أيها ) بغير تاء ، ولا أعلم أحدا ذكر أنها تذكر ، وإن كان المنادى مؤنثا إلا صاحب البديع ، وهذه القراءة شاهدة بذلك ، ولذلك وجه من القياس ، وذلك أنه لم يثن ولم يجمع في نداء المثنى والمجموع ، فكذلك لم يؤنث في نداء المؤنث . ( المطمئنة ) الآمنة التي لا يلحقها خوف ولا حزن ، أو التي كانت مطمئنة إلى الحق لم يخالطها شك . قال ابن زيد    : يقال لها ذلك عند الموت وخروجها من جسد المؤمن في الدنيا ، وقيل : عند البعث ، وقيل : عند دخول الجنة . ( إلى ربك    ) أي إلى موعد ربك . وقيل : الرب هنا الإنسان دون النفس ، أي ادخلي في الأجساد ، والنفس اسم جنس ، وقيل : هذا النداء هو الآن للمؤمنين ، لما ذكر حال الكفار قال : يا مؤمنون دوموا وجدوا حتى ترجعوا راضين مرضيين ، ( راضية ) بما أوتيته ( مرضية ) عند الله ( فادخلي في عبادي     ) أي في جملة عبادي الصالحين ( وادخلي جنتي     ) معهم ، وقيل : النفس والروح ، والمعنى : فادخلي في أجساد عبادي ، وقرأ الجمهور : ( في عبادي    ) جمعا ،  وابن عباس  ، و عكرمة  ، والضحاك  ، و مجاهد  ، وأبو جعفر  ، وأبو صالح  ، والكلبي  ، وأبو شيخ الهنائي  واليماني    : في عبدي على الإفراد ، والأظهر أنه أريد به اسم الجنس ، فمدلوله ومدلول الجمع واحد . وقيل : هو على حذف خاطب النفس مفردة ، فقال : فادخلي في عبدي : أي في جسد عبدي ، وتعدى ( فادخلي ) أولا بفي ، وثانيا بغير فاء ، وذلك أنه إذا كان المدخول فيه غير ظرف حقيقي تعدت إليه بفي دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس ، ومنه : ( فادخلي في عبادي    ) . وإذا كان المدخول فيه ظرفا حقيقيا ، تعدت إليه في الغالب بغير وساطة في . قيل : في  عثمان بن عفان  ، وقيل : في حمزة  ، وقيل : في  خبيب بن عدي  رضي الله تعالى عنهم أجمعين . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					