واختلفوا في منعه الكلام : هل كان لآفة نزلت به أم لغير آفة ؟ فقال : ربا لسانه في فيه حتى ملأه ، ثم أطلقه الله بعد ثلاث . وقال جبير بن نفير الربيع ، وغيره : أخذ الله عليه لسانه فجعل لا يقدر على الكلام ; معاقبة على سؤال آية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة . وقالت طائفة : لم تكن آفة ، ولكنه منع مجاورة الناس ، فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر الله . قاله ، وذكر نحوه عن الطبري ، وكانت الآية حبس اللسان لتخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها ، كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر . وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ، ومنتزعا منه ، وكان الإعجاز في هذه الآية من جهة قدرته على ذكر الله ، وعجزه عن تكليم الناس ، مع سلامة البنية ، واعتدال المزاج ، ومنه جهة وقوع العلوق ، وحصوله على وفق الأخبار . وقيل : أمر أن يصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم . وقال محمد بن كعب أبو مسلم : يحتمل أن يكون معناه : آيتك أن تصير مأمورا بأن لا تكلم الخلق ، وأن تشتغل بالذكر شكرا على إعطاء هذه الموهبة ، وإذا أمرت بذلك فقد حصل المطلوب . قيل : فسأل الله أن يفرض عليه فرضا يجعله شكرا لذلك .
والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه سأل آية تدل على أنه يولد له ، فأجابه بأن آيته انتفاء الكلام منه مع الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ، وأمر بالذكر ، والتسبيح ، وانتفاء الكلام قد يكون لمتكلف به ، أو بملزومه في شريعتهم ، وهو [ ص: 452 ] الصوم ، وقد يكون لمنع قهري مدة معينة لآفة تعرض في الجارحة ، أو لغير آفة ، قالوا : مع قدرته على الكلام بذكر الله . قال : ولذلك قال : ( الزمخشري واذكر ربك ) إلى آخره ، يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس ، وهي من الآيات الباهرة انتهى .
ولا يتعين ما قاله لما ذكرناه من احتمالات وجوه الانتفاء ، ولأن الأمر بالذكر ، والتسبيح ليس مقيدا بالزمان الذي لا يكلم الناس ، وعلى تقدير تقييد ذلك لا يتعين أن يكون الذكر والتسبيح بالنطق بالكلام ، وظاهر : اجعل ، هنا أنها بمعنى صير ، فتتعدى لمفعولين : الأول آية ، والثاني المجرور ، قبله ، وهو : لي ، وهو يتعين تقديمه ، لأنه قبل دخول : اجعل ، هو مصحح لجواز الابتداء بالنكرة . وقرأ : أن لا تكلم ، برفع الميم على أن : أن ، هي المخففة من الثقيلة ، أي أنه لا تكلم ، واسمها محذوف ؛ ضمير الشأن ، أو على إجراء : أن ، مجرى ما المصدرية ، وانتصاب : ثلاثة أيام ، على الظرف خلافا للكوفيين ، إذ زعموا أنه كان اسم الزمان يستغرقه الفعل ، فليس بظرف ، وإنما ينتصب انتصاب المفعول به نحو : صمت يوما ، فانتصاب " ثلاثة أيام " عندهم على أنه مفعول به ; لأن انتفاء الكلام منه للناس كان واقعا في جميع الثلاثة ، لم يخل جزء منها من انتفاء فيه . والمراد : ثلاثة أيام بلياليها ، يدل على ذلك قوله في سورة ابن أبي عبلة مريم : ( قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ) وهذا يضعف تأويل من قال : أمر بالصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم ، والليالي تبعد مشروعية صومها ، ولم يعين ابتداء ثلاثة أيام ، بل أطلق فقال : ثلاثة أيام ، فإن كان ذلك بتكليف فيمكن أن يكون ذلك موكولا إلى اختياره ، يمتنع من تكليم الناس ثلاثة أيام متى شاء ، ويمكن أن يكون ذلك من حين الخطاب ، وإن كان بمنع قهري فيظهر أنه من حين الخطاب .
قيل : وفي ذلك دلالة على ، وهذا على تقدير قدرة نسخ القرآن بالسنة زكريا على الكلام في تلك الأيام الثلاثة ، وأن شرعه شرع لنا ، وإن نسخه قوله - صلى الله عليه وسلم : لا صمت يوم إلى الليل . وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن معناه : لا صمت يوم ، أي : عن ذكر الله ، وأما الصمت عما لا منفعة فيه ، فحسن .
واستثناء الرمز ، قيل : هو استثناء منقطع ، إذا الرمز لا يدخل تحت التكليم ، من أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما في نفس المشير ، فلا يبعد أن يكون هذا استثناء متصلا على مذهبه . ولذلك أنشد النحويون :
أرادت كلاما فاتقت من رقيبها فلم يك إلا ومؤها بالحواجب
وقال :
إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر
واستعمل المولدون هذا المعنى . قال حبيب :
كلمته بجفون غير ناطقة فكان من رده ما قال حاجبه
وكونه استثناء متصلا بدأ به . قال : لما أدى مؤدي الكلام ، وفهم منه ما يفهم منه ، سمي كلاما . وأما الزمخشري ابن عطية فاختار أن يكون منقطعا ، قال : والكلام المراد به في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الاستثناء أنه منقطع ، وبدأ به أولا ، فقال استثناء الرمز ، وهو استثناء منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا ، والرمز هنا : تحريك بالشفتين ، قاله مجاهد . أو : إشارة باليد والرأس ، قاله الضحاك ، والسدي ، . أو : إشارة باليد ، قاله وعبد الله بن كثير الحسن . أو : إيماء ، قاله قتادة . فالإيماء هو الإشارة لكنه لم يعين بماذا أشار ؟ . وروي عن قتادة : إشارة باليد أو إشارة بالعين ، روي ذلك عن الحسن .
وقيل : رمزه : الكتابة على الأرض . وقيل : الإشارة بالإصبع المسبحة . وقيل : باللسان . ومنه [ ص: 453 ] قول الشاعر :
ظل أياما له من دهره يرمز الأقوال من غير خرس
وقيل : الرمز الصوت الخفي . وقرأ ، علقمة بن قيس : رمزا ، بضم الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رموز ، كرسل ، ورسول ، وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فعل ، وأتبعت العين الفاء كاليسر واليسر . ويحيى بن وثاب
وقرأ : رمزا ، بفتح الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رامز ، كخادم ، وخدم ، وانتصابه إذا كان جمعا على الحال من الفاعل ، وهو الضمير في " تكلم " ، ومن المفعول ، وهو : الناس . كما قال الشاعر : الأعمش
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيي وأيك فارس الأحزاب
أي : إلا مترامزين ، كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه . وفي قوله : ( إلا رمزا ) دلالة على أن الإشارة تتنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة . وفي الحديث : " أين الله " . فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : " أعتقها فإنها مؤمنة " . فأجاز الإسلام بالإشارة ، وهو أصل الديانة التي تحقن الدم ، وتحفظ المال وتدخل الجنة ، فتكون الإشارة عامة في جميع الديانات ، وهو قول عامة الفقهاء .
( واذكر ربك كثيرا ) قيل : الذكر هنا هو بالقلب ; لأنه منع من الكلام . وقيل : باللسان ; لأنه منع من الكلام مع الناس ، ولم يمنع من الذكر . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : واذكر عطاء ربك ، وإجابته دعائك . وقال : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص محمد بن كعب القرظي لزكريا ، وللرجل في الحرب . وقد قال تعالى : ( إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا ) وأمر بكثرة الذكر ; ليكثر ذكر الله له بنعمه وألطافه ، كما قال تعالى : ( فاذكروني أذكركم ) .
وانتصاب : كثيرا ، على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو منصوب على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال عليه : اذكروا ، على مذهب . سيبويه
( وسبح بالعشي والإبكار ) أي : نزه الله عن سمات النقص بالنطق باللسان بقولك : سبحان الله . وقيل : معنى " وسبح " : وصل ، ومنه : كان يصلي سبحة الضحى أربعا ، فلولا أنه كان من المسبحين على أحد الوجهين . والظاهر أنه أمر بتسبيح الله في هذين الوقتين : أول الفجر ، ووقت ميل الشمس للغروب ، قاله مجاهد ، وقال غيره : يحتمل أن يكون أراد بالعشي الليل ، وبالإبكار النهار ، فعبر بجزء كل واحد منهما عن جملته ، وهو مجاز حسن . ومفعول : " وسبح " ، محذوف للعلم به ، لأن قبله : ( واذكر ربك كثيرا ) أي : وسبح ربك . والباء : في بالعشي ، ظرفية أي : في العشي .
وقرئ شاذا ؛ والأبكار ، بفتح الهمزة ، وهو جمع بكر بفتح الباء والكاف ، تقول : أتيتك بكرا ، وهو مما يلتزم فيه الظرفية إذا كان من يوم معين ونظيره : سحر وأسحار ، وجبل وأجبال . وهذه القراءة مناسبة للعشي على قول من جعله جمع عشية إذ يكون فيها تقابل من حيث الجمعية ، وكذلك هي مناسبة إذا كان العشي مفردا ، وكانت الألف واللام فيه للعموم ، كقوله : ( إن الإنسان لفي خسر ) وأهلك الناس الدينار الصفر .
وأما على قراءة الجمهور : والإبكار ، بكسر الهمزة ، فهو مصدر ، فيكون قد قابل العشي الذي هو وقت ، بالمصدر ، فيحتاج إلى حذف أي : بالعشي ، ووقت الإبكار . والظاهر في : بالعشي ، والإبكار ، أن الألف واللام فيهما للعموم ، ولا يراد به عشي تلك الثلاثة الأيام ، ولا وقت الإبكار فيها . وقال الراغب : لم يعن التسبيح طرفي النهار فقط ، بل إدامة العبادة في هذه الأيام . وقال غيره : يدل على أن المراد بالتسبيح الصلاة ، ذكره : العشي والإبكار ؛ فكأنه قال : اذكر ربك في جميع هذه الأيام والليالي ، وصل طرفي النهار انتهى .
ويتعلق : بالعشي ، بقوله : " وسبح " ، ويكون على إعمال الثاني وهو الأولى ، إذ لو كان متعلقا بقوله : واذكر ربك ، لأضمر في الثاني ، إذ لا يجوز حذفه إلا في ضرورة . قيل : أو في قليل من الكلام ، ويحتمل أن لا يكون من باب [ ص: 454 ] الإعمال ، فيكون الأمر بالذكر غير مقيد بهذين الزمانين . قيل : وتضمنت هذه الآية من فنون الفصاحة أنواعا : الزيادة في البناء في قوله : هنالك ، وقد ذكرت فائدته . والتكرار : في ربه : قال رب ، وفي : إن الله يبشرك ، وبكلمة من الله . وفي آية : قال آيتك ، وفي : يكون لي غلام ، وكانت ، وتأنيث المذكر حملا على اللفظ . وفي : ذرية طيبة ، والإسناد المجازي في : وقد بلغني الكبر ، والسؤال والجواب : قال رب أنى ؟ قال كذلك ، قال رب اجعل لي آية . قال آيتك .
قال أرباب الصناعة : أحسن هذا النوع ما كثرت فيه القلقلة ، والحذف في مواضع .