وهذا أبو القاسم محمود بن عمر المشرقي الخوارزمي الزمخشري ، وأبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي المغربي الغرناطي ، أجل من صنف في علم التفسير وأفضل من تعرض للتنقيح فيه والتحرير ، وقد اشتهرا ولا كاشتهار الشمس ، وخلدا في الأحياء وإن هداني في الرمس ، وكلامهما فيه يدل على تقدمهما في علوم ، من منثور ومنظوم ، ومنقول ومفهوم ، وتقلب في فنون الآداب ، وتمكن من علمي المعاني والإعراب ، وفي خطبتي كتابيهما وفي غضون كتاب ما يدل على أنهما فارسا ميدان [ ص: 10 ] وممارسا فصاحة وبيان . الزمخشري تصانيف غير تفسيره منها الفائق في لغات الحديث ، ومختلف الأسماء ومؤتلفها ، وربيع الأبرار ، والرائض في الفرائض ، والمفصل وغير ذلك . وقد ذكر الوزير وللزمخشري أبو نصر الفتح بن خاقان الأشبيلي في كتابه المسمى ( قلائد العقيان ومحاسن الأعيان ) أبا محمد بن عطية فقال فيه : نبعة روح العلا ، ومحرز ملابس الثنا ، فذ الجلالة ، وواحد العصر والأصالة ، وقار كما رسا الهضب ، وأدب كما اطرد السلسل العذب ، أثره في كل معرفة علم في رأسه نار ، وطوالعه في آفاقها صبح ونهار ، وقد أثبت من نظمه ما ينفح عبيرا ، ويتضح منيرا ، وأورد له نثرا كما نظم قلائد ، ونظما تزدان بمثله أجياد الولائد ، من ألفاظ عذبة تستنزل برقتها العصم ، ومعان مبتكرة تفحم الألد الخصم ، أبقت له ذكرا مخلدا على جبين الدهر ، وعرفا أرجا كتضوع الزهر . ولما كان كتاباهما في التفسير قد أنجدا وأغارا ، وأشرقا في سماء هذا العلم بدرين وأنارا ، وتنزلا من الكتب التفسيرية منزلة الإنسان من العين ، والذهب الإبريز من العين ، ويتيمة الدر من اللآلئ ، وليلة القدر من الليالي ، فعكف الناس شرقا وغربا عليهما ، وثنوا أعنة الاعتناء إليهما ، وكان فيهما على جلالتهما مجال لانتقاد ذوي التبريز ، ومسرح للتخييل فيهما والتمييز ، ثنيت إليهما عنان الانتقاد ، وحللت ما تخيل الناس فيهما من الاعتقاد ، أنهما في التفسير الغاية التي لا تدرك ، والمسلك الوعر الذي لا يكاد يسلك ، وعرضتهما على محك النظر ، وأوريت فيهما نار الفكر حتى خلص دسيسهما وبرز نفيسهما ، وسيرى ذلك من هو للنظر أهل ، واجتمع فيه إنصاف وعدل ، فإنه يتعجب من التولج على الضراغم ، والتحرز لأشبالها والأنف راغم ، إذ هذان الرجلان هما فارسا علم التفسير ، وممارسا تحريره والتحبير ، نشراه نشرا ، وطار لهما به ذكرا ، وكانا متعاصرين في الحياة متقاربين في الممات .
( ولد ) أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الزمخشري بزمخشر قرية من قرى خوارزم يوم الأربعاء السابع عشر لرجب سنة سبع وستين وأربعمائة ، ( وتوفي بكركانج ) قصبة خوارزم ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة . ( وولد أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن عبد الرءوف بن عبد الله بن تمام بن عطية المحاربي من أهل غرناطة ) سنة إحدى وثمانين وأربعمائة ، وتوفي بلورقة في الخامس والعشرين لرمضان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة ، هكذا ذكره القاضي في وفاة ابن أبي جمرة ابن عطية ، ( وقال ) : توفي ، يعني الحافظ أبو القاسم بن بشكوال ابن عطية ، سنة اثنين وأربعين وخمسمائة ، وكتاب ابن عطية أنقل وأجمع وأخلص ، وكتاب ألخص وأغوص ، إلا أن الزمخشري قائل بالفطرة ومقتصر من الذؤابة على الوفرة ، فربما سنح له آبي المقادة فأعجزه اغتياصه ، ولم يمكنه لتأنيه اقتناصه ، فتركه عقلا لمن يصطاده وغفلا لمن يرتاده ، وربما ناقض هذا المنزع فثنى العنان إلى الواضح والسهل اللائح ، وأجال فيه كلاما ورمى نحو غرضه سهاما ، هذا مع ما في كتابه من نصرة مذهبه ، وتقحم مرتكبه وتجشم حمل كتاب الله - عز وجل - عليه ، ونسبة ذلك إليه ، فمغتفر إساءته لإحسانه ، ومصفوح عن سقطه في بعض لإصابته في أكثر تبيانه ،
الزمخشري