( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته    ) هذه استجارة واستعاذة . أي : فلا تفعل بنا ذلك ، ولا تجعلنا ممن يعمل بعملها . ومعنى أخزيته : فضحته . من خزي الرجل يخزى خزيا : إذا افتضح ، وخزاية : إذا استحيا ، الفعل واحد واختلف في المصدر ، فمن الافتضاح خزي ، ومن الاستحياء خزاية . ومن ذلك ( ولا تخزون في ضيفي    ) أي : لا تفضحون . وقيل : المعنى أهنته . وقال المفضل : أهلكته . ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثيا ورباعيا ، والرباعي أكثر وأفصح . وقال  الزجاج    : المخزي في اللغة هو المذل المحقور بأمر قد لزمه ، يقال : أخزيته ألزمته حجة أذللته معها . وقال أنس  وسعيد  ، والسدي  ، ومقاتل  ،  وابن جريج  ، وغيرهم : هي إشارة إلى من يخلد في النار ، أما من يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي . وقال  جابر بن عبد الله  وغيره : كل من دخل النار فهو مخزي وإن خرج منها ، وإن في دون ذلك لخزيا ، واختاره  ابن جريج  وأبو سليمان الدمشقي    . 
( وما للظالمين من أنصار    ) هو من قول الداعين . وقال  ابن عباس    : الظالمون هنا هم الكافرون ، وهو قول جمهور المفسرين . وقد صرح به في قوله : ( والكافرون هم الظالمون    ) وقوله : ( إن الشرك لظلم عظيم    ) ويناسب هذا التفسير أن يكون ما قبله فيمن يخلد في النار ؛ لأن نفي الناصر إما بمنع أو شفاعة مختص بالكفار ، وأما المؤمن فالله ناصره والرسول صلى الله عليه وسلم شافعه ، وبعض المؤمنين يشفع لبعض كما ورد في الحديث . وقال  الزمخشري    : وما للظالمين  اللام إشارة إلى من يدخل النار ، وإعلام بأن من يدخل النار ، فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال أن من يدخل النار لا يخرج منها أبدا ، سواء كان   [ ص: 141 ] كافرا أم فاسقا ، و ( من ) مفعولة لفعل الشرط . وحكى بعض المعربين ما نصه : وأجاز قوم أن يكون ( من ) منصوبا بفعل دل عليه جواب الشرط وهو : فقد أخزيته    . وأجاز آخرون أن يكون ( من ) مبتدأ ، والشرط وجوابه الخبر . انتهى . أما القول الأول فصادر عن جاهل بعلم النحو ، وأما الثاني فإعراب ( من ) مبتدأ في غاية الضعف . وأما إدخاله جواب الشرط في الخبر مع فعل الشرط فجهالة . ومن أعظم وزرا ممن تكلم في كتاب الله بغير علم . 
( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا    ) ( سمع ) إن دخل على مسموع تعدى لواحد ، نحو : سمعت كلام زيد ، كغيره من أفعال الحواس . وإن دخل على ذات وجاء بعده فعل أو اسم في معناه ، نحو : سمعت زيدا يتكلم ، وسمعت زيدا يقول كذا ، ففي هذه المسألة خلاف . منهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم إن كان قبله نكرة كان صفة لها ، أو معرفة كان حالا منها . ومنهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم هو في موضع المفعول الثاني لسمع ، وجعل ( سمع ) مما يعدى إلى واحد إن دخل على مسموع ، وإلى اثنين إن دخل على ذات ، وهذا مذهب أبي علي الفارسي    . والصحيح القول الأول ، وهذا مقرر في علم النحو . فعلى هذا يكون ( ينادي ) في موضع الصفة ؛ لأن قبله نكرة ، وعلى مذهب أبي علي  يكون في موضع المفعول الثاني . وذهب  الزمخشري  إلى القول الأول قال : تقول : سمعت رجلا يقول كذا ، وسمعت زيدا يتكلم ؛ لتوقع الفعل على الرجل ، وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالا عنه ، فأغناك عن ذكره . ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بد . وأن يقال : سمعت كلام فلان ، أو قوله . انتهى كلامه . وقوله : ولولا الوصف أو الحال إلى آخره - ليس كذلك ، بل لا يكون وصف ولا حال ، ويدخل ( سمع ) على ذات ، لا على مسموع . وذلك إذا كان في الكلام ما يشعر بالمسموع وإن لم يكن وصفا ولا حالا ، ومنه قوله تعالى : ( هل يسمعونكم إذ تدعون    ) أغنى ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع . 
والمنادى هنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : ( وداعيا إلى الله بإذنه    ) ( ادع إلى سبيل ربك    ) قاله  ابن جريج  وابن زيد وغيرهما - أو القرآن ، قاله  محمد بن كعب القرظي  ، قال : لأن كل المؤمنين لم يلقوا الرسول ، فعلى الأول يكون وصفه بالنداء حقيقة ، وعلى الثاني مجازا ، وجمع بين قوله : مناديا ينادي  ؛ لأنه ذكر الأول مطلقا وقيد الثاني تفخيما لشأن المنادي ؛ لأنه لا منادي أعظم من مناد ينادي للإيمان . وذلك أن المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء الثائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع . فإذا قلت : ( ينادي للإيمان    ) فقد رفعت من شأن المنادي وفخمته . واللام متعلقة بـ ( ينادي ) ، ويعدى نادى ، ودعا ، وندب باللام وبإلى ، كما يعدى بهما هدى لوقوع معنى الاختصاص ، وانتهاء الغاية جميعا . ولهذا قال بعضهم : إن اللام بمعنى إلى . لما كان ينادي في معنى يدعو ؛ حسن وصولها باللام بمعنى ( إلى ) . وقيل : اللام لام العلة ، أي لأجل الإيمان . وقيل : اللام بمعنى الباء ، أي بالإيمان . والسماع محمول على حقيقته ، أي سمعنا صوت مناد . قيل : ومن جعل المنادي هو القرآن ، فالسماع عنده مجاز عن القبول ، و ( أن ) مفسرة ، التقدير : أن آمنوا . وجوز أن تكون مصدرية وصلت بفعل الأمر ، أي : بأن آمنوا . فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني لها موضع وهو الجر ، أو النصب على الخلاف . وعطف ( فآمنا ) بالفاء مؤذن بتعجيل القبول ، وتسبيب الإيمان عن السماع من غير تراخ ، والمعنى : فآمنا بك أو بربنا . 
( ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا    )   [ ص: 142 ] قال  ابن عباس    : الذنوب هي الكبائر ، والسيئات هي الصغائر . ويؤيده : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم    ) وقيل : الذنوب ترك الطاعات ، والسيئات فعل المعاصي . وقيل : غفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض ، لكنه كرر للتأكيد ، ولأنها مناح من الستر وإزالة حكم الذنوب بعد حصوله ، والغفران والتكفير بمعنى ، والذنوب والسيئات بمعنى ، وجمع بينهما تأكيدا ومبالغة ؛ وليكون في ذلك إلحاح في الدعاء . فقد روي : ( إن الله يحب الملحين في الدعاء   ) . وقيل : في التكفير معنى ، وهو التغطية ، ليأمنوا الفضوح . والكفارة هي الطاعة المغطية للسيئة ، كالعتق والصيام والإطعام . ورجل مكفر بالسلاح ، أي مغطى . 
( وتوفنا مع الأبرار    ) جمع بر ، على وزن فعل ، كصلف . أو جمع بار على وزن فاعل كضارب ، وأدغمت الراء في الراء . وهم الطائعون لله ، وتقدم معنى البر . وقيل : هم هنا الذين بروا الآباء والأبناء . و ( مع ) هنا مجاز عن الصحبة الزمانية إلى الصحبة في الوصف ، أي : توفنا أبرارا معدودين في جملة الأبرار . والمعنى : اجعلنا ممن توفيتهم طائعين لك . وقيل : المعنى احشرنا معهم في الجنة . 
( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك    ) الظاهر أنهم سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على رسله ، ففسر هذا الموعود به بالجنة ، قاله  ابن عباس    . وقيل : الموعود به النصر على الأعداء . وقيل : استغفار الأنبياء ، كاستغفار نوح  و إبراهيم  ورسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين ، واستغفار الملائكة لهم . 
وقوله : على رسلك  هو على حذف مضاف ، فقدره  الطبري  وابن عطية    : على ألسنة رسلك . وقدره  الزمخشري    : على تصديق رسلك . قال : ف ( على ) هذه صلة للوعد في قولك : وعد الله الجنة على الطاعة . والمعنى : ما وعدتنا على تصديق رسلك . ألا تراه كيف أتبع ذكر المنادي للإيمان وهو الرسول ، وقوله : ( آمنا ) وهو التصديق . ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف ، أي : ما وعدتنا منزلا على رسلك ، أو محمولا على رسلك ؛ لأن الرسل يحملون ذلك ، فإنما عليه ما حمل . انتهى . وهذا الوجه الذي ذكر آخرا أنه يجوز ليس بجائز ؛ لأن من قواعد النحويين أن الجار والمجرور والظرف متى كان العامل فيهما مقيدا ، فلا بد من ذكر ذلك العامل ، ولا يجوز حذفه ، ولا يحذف العامل إلا إذا كان كونا مطلقا . مثال ذلك : زيد ضاحك في الدار ، لا يجوز حذف ضاحك ألبتة . وإذا قلت : زيد في الدار فالعامل كون مطلق يحذف . وكذلك : زيد ناج من بني تميم ، لا يجوز حذف ناج . ولو قلت : زيد من بني تميم ؛ جاز على تقدير : كائن من بني تميم ، والمحذوف فيما جوزه  الزمخشري  ، وهو قوله : منزلا أو محمولا ، لا يجوز حذفه على ما تقرر في علم النحو . 
وإذا كان العامل في الظرف أو المجرور مقيدا صار ذلك الظرف أو المجرور ناقصا ، فلا يجوز أن يقع صلة ، ولا خبرا لا في الحال ، ولا في الأصل ، ولا صفة ، ولا حالا . ومعنى سؤالهم : أن يعطيهم ما وعدهم : أن يثيبهم على الإيمان والطاعة حتى يكونوا ممن يؤتيهم الله ما وعد المؤمنين ، ومعلوم أنه تعالى منجز ما وعد ، فسألوا إنجاز ما ترتب على الإيمان . والمعنى : التثبيت على الإيمان حتى يكونوا ممن يستحق برحمة الله تعالى إنجاز الوعد . وقيل : هذا السؤال جاء على سبيل الالتجاء إلى الله تعالى والتضرع له ، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون ، مع علمهم أنهم مغفور لهم ، يقصدون بذلك التذلل والتضرع إليه والالتجاء . وقيل : استبطئوا النصر الذي وعدوا به فسألوا أن يعجل لهم وعده ، فعلى هذا وهو أن يكون الموعود به النصر يكون الإيتاء في الدنيا ، وعلى أن يكون الجنة يكون   [ ص: 143 ] الإيتاء في الآخرة . وقرأ  الأعمش    : ( على رسلك ) بإسكان السين . 
( ولا تخزنا يوم القيامة    ) فسر الإخزاء هنا بما فسر في فقد أخزيته    . و ( يوم القيامة ) معمول لقوله : ولا تخزنا  ، ويجوز أن يكون من باب الإعمال ، إذ يصلح أن يكون منصوبا بـ ( تخزنا    ) وب ( آتنا ما وعدتنا    ) ، إذا كان الموعود به الجنة . 
( إنك لا تخلف الميعاد    ) ظاهره أنه تعليل لقوله : ( وآتنا ما وعدتنا    ) . وقال ابن عطية    : إشارة إلى قوله تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه    ) فهذا وعده تعالى ، وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود . انتهى . 
وانظر إلى حسن محاورة هؤلاء الذاكرين المتفكرين ، فإنهم خاطبوا الله تعالى بلفظة ( ربنا ) ، وهي إشارة إلى أنه ربهم أصلحهم وهيأهم للعبادة ، فأخبروا أولا بنتيجة الفكر وهو قولهم : ( ربنا ما خلقت هذا باطلا    ) ثم سألوه أن يقيهم النار بعد تنزيهه عن النقائص . وأخبروا عن حال من يدخل النار وهم الظالمون الذين لا يذكرون الله ، ولا يتفكرون في مصنوعاته . ثم ذكروا أيضا ما أنتج لهم الفكر من إجابة الداعي إلى الإيمان ، إذ ذاك مترتب على أنه تعالى ما خلق هذا الخلق العجيب باطلا . ثم سألوا غفران ذنوبهم ووفاتهم على الإيمان الذي أخبروا به في قولهم : فآمنا ثم سألوا الله الجنة وأن لا يفضحهم يوم القيامة ، وذلك هو غاية ما سألوه . 
وتكرر لفظ ( ربنا ) خمس مرات ، كل ذلك على سبيل الاستعطاف وتطلب رحمة الله تعالى بندائه بهذا الاسم الشريف الدال على التربية والملك والإصلاح . وكذلك تكرر هذا الاسم في قصة آدم  و نوح  وغيرهما . وفي تكرار ( ربنا . . . . . . ربنا ) دلالة على جواز الإلحاح في المسألة ، واعتماد كثرة الطلب من الله تعالى    . وفي الحديث : ( ألظوا بـ يا ذا الجلال والإكرام   ) ، وقال الحسن    : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم   . وهذه مسألة أجمع عليها علماء الأمصار خلافا لبعض الصوفية  ، إذ أجاز ذلك فيما يتعلق بالآخرة لا بالدنيا ، ولبعض المتصوفة أيضا إذ قال : الله تعالى تولى من اتبع الأمر واجتنب النهي وارتفع عنه كلف طلباته ودعائه . خرج أبو نصر الوايلي السجستاني الحافظ  في كتاب الإبانة عن  أبي هريرة    : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة   ) يعني : إن في خلق السماوات والأرض    . قال العلماء : ويستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه  ، ويستفتح قيامه بقراءة هذا العشر آيات اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما ، ثم يصلي ما كتب له ، فيجمع بين التفكر والعمل . 
				
						
						
