وفي انتصاب درجة ، ودرجات وجوه ; أحدها : أنهما ينتصبان انتصاب المصدر لوقوع درجة موقع المرة في التفضيل ؛ كأنه قيل فضلهم تفضيله . كما تقول : ضربته سوطا ، ووقوع درجات موقع تفضيلات كما تقول : ضربته أسواطا تعني : ضربات . والثاني : أنهما ينتصبان انتصاب الحال ; أي ذوي درجة وذوي درجات . والثالث : على تقدير حرف الجر أي بدرجة وبدرجات . والرابع : أنهما انتصبا على معنى الظرف ; إذ وقعا موقعه ; أي في درجة وفي درجات . وقيل انتصاب درجات على البدل من أجرا قيل ( ومغفرة ورحمة ) معطوفان على درجات . وقيل انتصبا بإضمار فعلهما ; أي غفر ذنبهم مغفرة ، ورحمهم رحمة . وأما انتصاب أجرا عظيما فقيل على المصدر ; لأن معنى فضل معنى أجر ، فهو مصدر من المعنى لا من اللفظ . وقيل على إسقاط حرف الجر أي بأجر . وقيل مفعول بفضلهم لتضمينه معنى ( أعطاهم ) . قال : ونصب ( الزمخشري أجرا عظيما ) على أنه حال من النكرة التي هي درجات مقدمة عليها ، انتهى . وهذا لا يظهر ; لأنه لو تأخر لم يجز أن يكون نعتا لعدم المطابقة ; لأن أجرا عظيما مفرد ، ولا يكون نعتا لدرجات لأنها جمع . وقال ابن عطية : ونصب درجات ؛ إما على البدل من الأجر ، وإما بإضمار فعل ( على ) أن يكون تأكيدا للأجر ، كما نقول لك : علي ألف درهم عرفا ؛ كأنك قلت : أعرفها عرفا انتهى . وهذا فيه نظر .
( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض ) روى البخاري : أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم ، أو يضرب فيقتل ؛ فنزلت . وقيل قوم من أهل ابن عباس مكة أسلموا ؛ فلما هاجر الرسول أقاموا مع قومهم ، وفتن منهم جماعة ؛ فلما كان يوم بدر خرج منهم قوم مع الكفار ؛ فقتلوا ببدر فنزلت . قال عن عكرمة : نزلت في خمسة قتلوا يوم بدر : قيس بن النائحة بن المغيرة ، والحارث بن زمعة بن الأسود بن أسد ، وقيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاصي بن منبه بن الحجاج ، وعلي بن أمية بن خلف . وقال النقاش : في أناس سواهم أسلموا ثم خرجوا إلى بدر ؛ فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غر هؤلاء دينهم .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه تعالى لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد ؛ أتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد ، وسكن في بلاد الكفر . قال ، ابن عباس ومقاتل : التوفي هنا قبض الأرواح . وقال الحسن : الحشر إلى النار . والملائكة هنا قيل ملك الموت ، وهو من باب إطلاق الجمع على الواحدة تفخيما له ، وتعظيما لشأنه ؛ لقوله تعالى : ( قل يتوفاكم ملك الموت ) هذا قول الجمهور . وقيل المراد ملك الموت ، وأعوانه ، وهم ستة ؛ ثلاثة لأرواح [ ص: 334 ] المؤمنين ، وثلاثة لأرواح الكافرين . ويشهد لهذا ( توفته رسلنا وهم لا يفرطون ) ، وظلمهم أنفسهم بترك الهجرة وقعودهم مع قومهم حين رجعوا للقتال ، أو برجوعهم إلى الكفر ، أو بشكهم ، أو بإعانة المشركين ، أقوال أربعة : وتوفاهم : ماض لقراءة من قرأ توفتهم ، ولم يلحق تاء التأنيث للفصل ، ولكون تأنيث الملائكة مجازا ، أو مضارع ، وأصله تتوفاهم .
وقرأ إبراهيم : توفاهم بضم التاء مضارع وفيت ؛ والمعنى : إن الله يوفي الملائكة أنفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها . والضمير في ( قالوا ) للملائكة ، والجملة خبر إن ، والرابط ضمير محذوف دل عليه المعنى ؛ التقدير : قالوا : قالوا لهم فيم كنتم ؟ وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع . والمعنى : في أي شيء كنتم من أمر دينكم ؟ وقيل إن أحوال الدنيا ، وجوابهم للملائكة اعتذار عن تخلفهم عن الهجرة ، وإقامتهم بدار الكفر ، وهو اعتذار غير صحيح .
قال : فإن قلت : كيف صح وقوع قوله : الزمخشري كنا مستضعفين في الأرض جوابا عن قولهم : فيم كنتم ؟ وكان حق الجواب أن يقولوا : كنا في كذا ، ولم يكن في شيء ؟ قلت : معنى فيم كنتم ، التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على الهجرة ، ولم يهاجروا ؛ فقالوا : كنا مستضعفين اعتذارا مما وبخوا به ، واعتلالا بالاستضعاف ، وأنهم لم يتمكنوا من الهجرة حتى يكونوا في شيء ، انتهى كلامه . والذي يظهر أن قولهم : كنا مستضعفين في الأرض جواب لقوله : فيم كنتم على المعنى ، لا على اللفظ ; لأن معنى : فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم ، قالوا : كنا مستضعفين ; أي في حالة استضعاف في الأرض ، بحيث لا نقدر على الهجرة ، وهو جواب كذب والأرض هنا أرض مكة . ( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ) هذا تبكيت من الملائكة لهم ، ورد لما اعتذروا به ; أي لستم مستضعفين ، بل كانت لكم القدرة على الخروج إلى بعض الأقطار فتهاجروا حتى تلحقوا بالمهاجرين ، كما فعل الذين هاجروا إلى الحبشة ، ثم لحقوا بعد بالمؤمنين بالمدينة . ومعنى فتهاجروا فيها ; أي في قطر من أقطارها ، بحيث تأمنون على دينكم . وقيل أرض الله أي المدينة . واسعة آمنة لكم من العدو فتخرجوا إليها . وهل هؤلاء الذين توفتهم الملائكة مسلمون خرجوا مع المشركين في قتال فقتلوا ؟ أو منافقون ، أو مشركون ؟ ثلاثة أقوال . الثالث قاله الحسن . قال ابن عطية : قول الملائكة لهم بعد توفي أرواحهم يدل على أنهم مسلمون ، ولو كانوا كفارا لم يقل لهم شيء من ذلك ، وإنما لم يذكروا في الصحابة لشدة ما واقعوه ، ولعدم تعين أحد منهم بالإيمان ، واحتمال ردته . انتهى ملخصا . وقال : يوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر كافرا حتى يهاجر إلا من لا يستطيع حيلة ، ولا يهتدي سبيلا ، انتهى . قال السدي ابن عطية : والذي تقتضيه الأصول أن من ارتد من أولئك كافر ، ومأواه جهنم على جهة الخلود ، ومن كان مؤمنا فمات بمكة ولم يهاجر ، أو أخرج كرها فقتل عاص مأواه جهنم دون خلود . ولا حجة للمعتزلة في هذه الآية على التكفير بالمعاصي . وفي الآية دليل على أن من لا يتمكن من إقامة دينه في بلد كما يحب وجبت عليه الهجرة . وروي في الحديث من فر بدينه من أرض إلى أرض ، وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة ، وكان رفيق أبيه إبراهيم ، ونبيه محمد .
( فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ) الفاء للعطف ؛ عطفت جملة على جملة . وقيل ( فأولئك ) خبر ( إن ) ، ودخلت الفاء في خبر إن تشبيها لاسمها باسم الشرط ، وقالوا : فيم كنتم حال من الملائكة ، أو صفة لظالمي أنفسهم أي ظالمين أنفسهم قائلا لهم الملائكة : فيم كنتم ؟ وقيل خبر إن محذوف تقديره : هلكوا ، ثم فسر الهلاك بقوله : قالوا فيم كنتم .
[ ص: 335 ] ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ) من الرجال جماعة ؛ كعياش بن أبي زمعة ، وسلمة بن هشام ، والوليد بن الوليد . ومن النساء جماعة : . ومن الولدان : كأم الفضل أمامة بنت الحارث أم عبد الله بن عباس وغيره . فإن أريد بالولدان العبيد والإماء البالغون فلا إشكال في دخولهم في المستثنين ، وإن أريد بالولدان الأطفال فهم لا يكونون إلا عاجزين فلا يتوجه عليهم وعيد بخلاف الرجال والنساء قد يكونون عاجزين ، وقد يكونون غير عاجزين ؛ وإنما ذكروا مع الرجال والنساء ، وإن كانوا لا يتوجه عليهم الوعيد باعتبار أن عجزهم هو عجز لآبائهم الرجال والنساء ; لأن من أقوى أسباب العجز وعدم الحنكة كون الرجال والنساء مشغولين بأطفالهم ، مشغوفين بهم ، فيعجزون عن الهجرة بسبب خوف ضياع أطفالهم وولدانهم . فذكر الولدان في المستثنين ، تنبيه على أعظم طرق العجز للرجال والنساء ; لأن طرق العجز لا تنحصر ؛ فنبه بذكر عجز الولدان على قوة عجز الآباء والأمهات بسببهم . عبد الله بن عباس
قال : ويجوز أن يراد المراهقون منهم الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء ، فيلحقوا بهم في التكليف ، انتهى . وليس بجيد ; لأن المراهق لا يلحق بالمكلف أصلا ، ولا وعيد عليه ما لم يكلف . وقيل يحتمل أن يراد بالمستضعفين أسرى المسلمين الذين هم في أيدي المشركين لا يستطيعون حيلة إلى الخروج ، ولا يهتدون إلى تخليص أنفسهم . وهذا الاستثناء قال الزمخشري : هو من قوله : ( مأواهم جهنم ) . قال غيره : كأنه قيل فأولئك في جهنم إلا المستضعفين ؛ فعلى هذا استثناء متصل . والذي يقتضيه النظر أنه استثناء منقطع ; لأن قوله : ( الزجاج إن الذين توفاهم الملائكة ) إلى آخره يعود الضمير في مأواهم إليهم . وهم على أقوال المفسرين إما كفار ، وإما عصاة بالتخلف عن الهجرة ، وهم قادرون ؛ فلم يندرج فيهم المستضعفون المستثنون ; لأنهم عاجزون ، فهو منقطع .
لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . الحيلة : لفظ عام لأنواع أسباب التخلص . والسبيل هنا طريق المدينة قاله مجاهد والسدي . وغيرهما . قال ابن عطية : والصواب أنه عام في جميع السبل ؛ يعني المخلصة من دار الكفر ، انتهى . وقيل لا يعرفون طريقا إلى الخروج ، وهذه الجملة قيل مستأنفة ، وقيل في موضع الحال . وقال : صفة للمستضعفين ، أو الرجال والنساء والولدان . قال : وإنما جاز ذلك والجمل نكرات ; لأن الموصوف ، وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله : الزمخشري
ولقد أمر على اللئيم يسبني
انتهى كلامه .وهو تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى : ( وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ) ، وهو هدم للقاعدة المشهورة : بأن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة ، والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة . والذي يظهر أنها جملة مفسرة لقوله : المستضعفين ; لأنها في معنى : إلا الذين استضعفوا فجاء بيانا وتفسيرا لذلك ; لأن الاستضعاف يكون بوجوه فبين جهة الاستضعاف النافع في التخلف عن الهجرة ، وهي عدم استطاعة الحيلة وعدم اهتداء السبيل . والثاني مندرج تحت الأول ; لأنه يلزم من انتفاء القدرة على الحيلة التي يتخلص بها انتفاء اهتداء السبيل . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مسلمي مكة بهذه الآية ؛ فقال جندب بن ضمرة الليثي : ويقال : جندع بالعين ، أو ضمرة بن جندب لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ، وإني لأهتدي [ ص: 336 ] الطريق ، والله لا أبيت الليلة بمكة ، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة ، وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم .
( فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ) عسى : كلمة إطماع وترجية ، وأتى بها ، وإن كانت من الله واجبة ، دلالة على أن ترك الهجرة أمر صعب لا فسحة فيه ، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول : عسى الله أن يعفو عني . وقيل معنى ذلك أنه يعفو عنه في المستقبل ، كأنه وعدهم غفران ذنوبهم ، كما قال : أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم . إن الله قد اطلع على
( وكان الله عفوا غفورا ) تأكيد في وقع عفوه عن هؤلاء ، وتنبيه على أن هذا المترجى هو واقع ; لأنه تعالى لم يزل متصفا بالعفو والمغفرة .