ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
[ ص: 377 ] وقال آخر :خيال لأم السلسبيل ودونها مسيرة شهر للبريد المذبذب
( إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ) تقدم تفسير يخادعون الله في أول البقرة . ومعنى ، وهو خادعهم ; أي منزل الخداع بهم ، وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب . فعقوبتهم في الدنيا ذلهم ، وخوفهم ، وفي الآخرة عذاب جهنم ؛ قاله ابن عطية . وقال الحسن والسدي ، وغيرهم من المفسرين : هذا الخداع هو أنه تعالى يعطي هذه الأمة يوم القيامة نورا لكل إنسان مؤمن أو منافق ؛ فيفرح المنافقون ، ويظنون أنهم قد نجوا ، فإذا جاءوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق ، ونهض المؤمنون . وذلك قول المنافقين : انظرونا نقتبس من نوركم ، وذلك هو الخداع الذي يجري على المنافقين . وابن جريج
وقال : وهو خادعهم ، وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع ؛ حيث تركهم معصومين الدماء والأموال في الدنيا ، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة ، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم . والخادع من خدعته إذا غلبته ، وكنت أخدع منه ، انتهى . وبعضه مسترق من كلام الزمخشري . قال الزجاج : لما أمر بقبول ما أظهروا كان خادعا لهم بذلك . وقرأ الزجاج مسلمة بن عبد الله النحوي : خادعهم بإسكان العين على التخفيف ، واستثقال الخروج من كسر إلى ضم . وهذه الجملة معطوفة على خبر ( إن ) . وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال .
( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ) أي متوانين لا نشاط لهم فيها ; لأنهم إنما يصلون تسترا وتكلفا ، وينبغي للمؤمن أن يتحرز من هذه الخصلة التي ذم المنافقون ، وأن يقبل إلى صلاته بنشاط وفرغ قلب ، وتمهل في فعلها ، ولا يتقاعس عنها فعل المنافق الذي يصلي على كره ، لا عن طيب نفس ورغبة . وما زال في كل عصر منافقون يتسترون بالإسلام ، ويحضرون الصلوات كالمتفلسفين الموجودين في عصرنا هذا ، وقد أشار بعض علمائنا إليهم في شعر قاله ، وضمن فيه بعض الآية ؛ فقال في أبي الوليد بن رشد الحفيد ، وأمثاله من متفلسفة الإسلام :
لأشياع الفلاسفة اعتقاد يرون به عن الشرح انحلالا
أباحوا كل محظور حرام وردوه لأنفسهم حلالا
وما انتسبوا إلى الإسلام إلا لصون دمائهم أن لا تسالا
فيأتون المناكر في نشاط ويأتون الصلاة وهم كسالى
( يراءون الناس ) ; أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة ، وأنهم مسلمون . وهي من باب المفاعلة ، يري المرائي الناس تجمله بأفعال الطاعة ، وهم يرونه استحسان ذلك العمل . وقد يكون من باب فاعل بمعنى فعل ؛ نحو نعمة وناعمة . وروىأبو زيد : رأت المرأة المرآة إذا أمسكتها لترى وجهها . وقرئ : يرءون بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو . وقال ابن عطية : وهي أقوى في المعنى من يراءون ; لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ، ويتظاهرون لهم بالصلاة ، وهم يبطنون النفاق . ونسب هذه القراءة الزمخشري لابن أبي إسحاق [ ص: 378 ] إلا أنه قال قرأ : يرءونهم همزة مشددة مثل : يرعونهم ; أي يبصرونهم أعمالهم ، ويراءونهم كذلك .
( ولا يذكرون الله إلا قليلا ) قال الحسن : قل لأنه كان يعمل لغير الله . وقال قتادة : ما معناه إنما قل لكونه لم يقبله ، وما رده الله فكثيره قليل ، وما قبله فقليله كثير . وقال غيره : قل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل ، وقولهم الزور والكفر . وقال : إلا قليلا ; لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به ، وما يجاهرون به قليل ; لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه ، أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا . ويجوز أن يراد بالقلة العدم ، انتهى . ولا يجوز أن يراد به العدم ; لأن الاستثناء يأباه ، وقد رددنا هذا القول عليه ، وعلى الزمخشري ابن عطية في هذه السورة . وقيل قل ; لأنهم قصدوا به الدنيا ، وزهرتها ؛ وذلك فإن ( متاع الدنيا قليل ) ، وقيل في الكلام حذف تقديره : ولا يذكرون عقاب الله ، وثوابه إلا قليلا لاستغراقهم في الدنيا ، وغلبة الغفلة على قلوبهم . والظاهر أن الذكر هنا هو باللسان ، وأنهم قل أن يذكروا الله بخلاف المؤمن المخلص ؛ فإنه يغلب على أحواله ذكر الله تعالى .
( مذبذبين بين ذلك ) ; أي مقلقين . قال : ذبذبهم الشيطان والهوى ، بين الإيمان والكفر ، يترددون بينهما متحيرين ؛ كأنه يذب عن كلا الجانبين ; أي يذاد فلا يقر في جانب واحد ، كما يقال : فلان يرمي به الرحوان ؛ إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ، كأن المعنى : كلما مال إلى جانب ذب عنه ، انتهى . ونسب الذبذبة إلى الشيطان ، وأهل السنة يقولون : إن هذه الحياة والذبذبة إنما حصلت بإيجاد الله . وفي الحديث : الزمخشري والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان ، كما قال تعالى : ( مثل المنافق مثل الشاة العاير بين الغنمين عوان بين ذلك ) أي بين البكر والفارض .
وقال ابن عطية : وأشار إليه ، وإن لم يتقدم ذكر الظهور لضمن الكلام له ، كما جاء : ( حتى توارت بالحجاب ) و ( كل من عليها فان ) ، انتهى . وليس كما ذكر ، بل تقدم ما تصح إليه الإشارة من المصدرين اللذين دل عليهما ذكر الكافرين والمؤمنين ؛ فهو من باب : إذا نهى السفيه جرى إليه .
وقرأ ابن عباس وعمرو بن فائد : مذبذبين بكسر الذال الثانية ، جعلاه اسم فاعل ; أي مذبذبين أنفسهم أو دينهم ، أو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل ، وتصلصل بمعنى . وقرأ أبي : متذبذبين اسم فاعل من تذبذب ; أي اضطرب ، وكذا في مصحف عبد الله . وقرأ الحسن : مذبذبين بفتح الميم والذالين . قال ابن عطية : وهي قراءة مردودة . انتهى . من أفصح الناس يحتج بكلامه ؛ فلا ينبغي أن ترد قراءته ، ولها وجه في العربية ، وهو أنه أتبع [ ص: 379 ] حركة الميم بحركة الذال ؛ وإذا كانوا قد أتبعوا حركة الميم بحركة عين الكلمة ، في مثل منتن ، وبينهما حاجز فلأن يتبعوا بغير حاجز أولى . وكذلك أتبعوا حركة عين منفعل بحركة اللام في حالة الرفع ؛ فقالوا : منحدر ، وهذا أولى ; لأن حركة الإعراب ليست ثابتة خلاف حركة الذال ، وهذا كله توجيه شذوذ . وعلى تقدير صحة النقل عن الحسن أنه قرأ بفتح الميم . وقرأ والحسن البصري أبو جعفر : مدبدبين بالدال غير معجمة كأن المعنى : أخذتهم تارة بدبة وتارة في دبة ؛ فليسوا بماضين على دبة واحدة . والدبة الطريقة ، وهي في حديث : ابن عباس اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا الجماعة ، ويقال : دعني ودبتي أي طريقتي وسجيتي . قال الشاعر :
طها هذريان قل تغميض عينه على دبة مثل الخنيق المرعبل
( لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ) والمراد بأحد المشار إليهم المؤمنون وبالآخر الكافرون . والمعنى : لا يعتقدون الإيمان فيعدوا من المؤمنين ، ولم يقيموا على إظهار الكفر فيعدوا مع الكافرين . ويتعلق إلى بمحذوف تقديره : ولا منسوبين إلى هؤلاء ، وهو موضع الحال .
( ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ) ; أي فلن تجد لهدايته سبيلا ، أو فلن تجد سبيلا إلى هدايته . ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) لما كان هذا الوصف من أوصاف المنافقين وتقدم ذمهم بذلك نهى الله تعالى المؤمنين عن هذا الوصف . وكان للأنصار في بني قريظة رضاع وحلف ومودة ، فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : من نتولى ؟ فقال : ( المهاجرون ) . وقال القفال : هذا نهي للمؤمنين عن موالاة المنافقين ، يقول : قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء ، انتهى . فعلى هذا هل الكافرون هنا اليهود أو المنافقون قولان ؟ وقال ابن عطية : خطابه للمؤمنين يدخل فيه بحكم الظاهر ، المنافقون المظهرون للإيمان ، وفي اللفظ رفق بهم ، وهو المراد بقوله : ( أتريدون أن ) هذا التوفيق إنما هو لمن ألم بشيء من العقل المؤدي إلى هذه الحال والمؤمنون المخلصون ما ألموا بشيء من ذلك . ويقوي هذا المنزع قوله تعالى : من دون المؤمنين ; أي والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة ، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين بل المعنى : يا أيها الذين أظهروا الإيمان والتزموا لوازمه ، انتهى . قيل : وفي الآية دليل على أن الكفار لا يستحق على المسلم ولاية بوجه ولدا كان أو غيره ، وأن لا يستعان بذمي في أمر يتعلق به نصرة ، وولاية كقوله تعالى : ( لا تتخذوا بطانة من دونكم ) ، وقد كره بعض العلماء توكيله في الشراء والبيع ، وفي دفع المال إليه مضاربة .