( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ) تقدم تفسير مثل هذه الجملة الأولى في النساء ، إلا أن هناك بدئ بالقسط ، وهنا أخر . وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة . ويلزم من كان قائما لله أن يكون شاهدا بالقسط ، ومن كان قائما بالقسط أن يكون قائما لله ، إلا أن التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين ، فبدئ فيها بالقسط الذي هو العدل والسواء من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة ، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والإحن ، فبدئ فيها بالقيام لله تعالى أولا لأنه أردع للمؤمنين ، ثم أردف بالشهادة بالعدل ، فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدئ فيه بما هو آكد وهو القسط ، وفي معرض العداوة والشنآن بدئ فيها بالقيام لله ، فناسب كل معرض بما جيء به إليه . وأيضا فتقدم هناك حديث النشوز والإعراض ، وقوله : ( ولن تستطيعوا أن تعدلوا ) وقوله : ( فلا جناح عليهما أن يصلحا ) فناسب ذكر تقديم القسط ، وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط ، وتعدية يجرمنكم بـ ( على ) إلا أن يضمن معنى ما يتعدى بها ، وهو خلاف الأصل .
( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أي : العدل ، نهاهم أولا أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانيا تأكيدا ، ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله : هو أقرب للتقوى ، أي : أدخل في مناسبتها ، أو أقرب لكونه لطفا فيها . وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين في العدل ، إذ كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين . ( واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) لما كان الشنآن محله القلب وهو الحامل [ ص: 441 ] على ترك العدل أمر بالتقوى ، وأتى بصفة ( خبير ) ومعناها : عليم ، ولكنها تختص بما لطف إدراكه ، فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية . ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ) لما ذكر تعالى أوامر ونواهي ، ذكر وعد من اتبع أوامره واجتنب نواهيه ; و ( وعد ) تتعدى لاثنين والثاني محذوف ; تقديره : الجنة ; وقد صرح بها في غير هذا الموضع ، والجملة من قوله لهم مغفرة مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب لأن الجنة مترتبة على الغفران وحصول الأجر ، وإذا كانت الجملة مفسرة فلا موضع لها من الإعراب ، والكلام قبلها تام ; وجعل قوله " الزمخشري لهم مغفرة وأجر عظيم " بيانا للوعد ; قال : كأنه قال قدم لهم وعدا فقيل : أي شيء وعده ، فقال : لهم مغفرة وأجر عظيم ; أو يكون على إرادة القول ؛ وعدهم وقال : لهم مغفرة ; أو على إجراء ( وعد ) مجرى ( قال ) لأنه ضرب من القول أو يجعل ( وعد ) واقعا على الجملة التي هي مغفرة كما وقع ( تركنا ) على قوله : سلام على نوح في العالمين كأنه قيل : وعدهم هذا القول ، وإذا وعدهم من لا يخلف الميعاد فقد وعدهم مضمونه من المغفرة والأجر العظيم ، وهذا القول يتلقونه عند الموت ويوم القيامة ، فيسرون ويستريحون إليه ، وتهون عليهم السكرات والأهوال قبل الوصول إلى التراب . انتهى . وهي تقادير محتملة ، والأول أوجهها .