( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ) لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح : ( اعبدوا الله ربي وربكم ) والثاني بقوله : ( وما من إله إلا إله واحد ) أثبت له الرسالة بصورة الحصر ; أي : ما المسيح ابن مريم شيء مما تدعيه النصارى من كونه إلها وكونه أحد آلهة ثلاثة ، بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا ، جاء بآيات من عند الله كما جاءوا ، فإن أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص على يده ، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى ، وفلق البحر وطمس على يد موسى ، وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر وأنثى . وفي قوله : إلا رسول ; رد على اليهود حيث ادعوا كذبه في دعوى الرسالة ، وحيث ادعوا أنه ليس لرشدة . وقرأ حطان : من قبله رسل بالتنكير .
( وأمه صديقة ) هذا البناء من أبنية المبالغة ، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد ، إذ بناء هذا التركيب منه سكيت وسكير ، وشريب وطبيخ ، من سكت وسكر ، وشرب وطبخ . ولا يعمل ما كان مبنيا من الثلاثي المتعدي كما يعمل فعول وفعال ومفعال ، فلا يقال : زيد شريب الماء ، كما تقول : ضراب زيدا ; والمعنى : الإخبار عنها بكثرة الصدق . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون من التصديق ; وبه سمي . ولم يذكر أبو بكر الصديق غير أنه من التصديق . وهذا القول خلاف الظاهر من هذا البناء . قال الزمخشري : وأمه صديقة ; أي : وما أمه إلا كبعض النساء المصدقات للأنبياء المؤمنات بهم ، فما منزلتهما إلا منزلة بشرين : أحدهما نبي ، والآخر صحابي ، فمن أين اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لم يوصف به سائر الأنبياء وصحابتهم ؟ مع أنه لا تميز ولا تفاوت بينهما وبينهم بوجه من الوجوه . انتهى . وفيه تحميل لفظ القرآن ما ليس فيه ، من ذلك أن قوله : وأمه صديقة ; ليس فيه إلا الإخبار عنها بصفة كثرة الصدق ، وجعله هو من باب الحصر فقال : وما أمه إلا كبعض النساء المصدقات إلى آخره ، وهكذا عادته يحمل ألفاظ القرآن ما لا تدل عليه . قال الزمخشري الحسن : صدقت جبريل ، عليه السلام ، لما أتاها كما حكى تعالى عنها : ( وصدقت بكلمات ربها وكتبه ) . وقيل : صدقت بآيات ربها ، وبما أخبر به ولدها . وقيل : سميت بذلك لمبالغتها في صدق حالها مع الله ، وصدقها في براءتها مما رمتها به اليهود . وقيل : وصفها بصديقة لا يدل على أنها نبية ، إذ هي رتبة لا تستلزم النبوة . قال تعالى : ( فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ) ومن ذلك ، رضي الله عنه ، ولا يلزم من تكليم الملائكة بشرا نبوته فقد كلمت الملائكة قوما ليسوا بأنبياء لحديث الثلاثة : الأقرع ، والأعمى ، والأبرص ; فكذلك أبو بكر الصديق مريم .
( كانا يأكلان الطعام ) هذا تنبيه على سمة الحدوث ، وتبعيد عما اعتقدته النصارى فيهما من الإلهية ، لأن من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك ، وهو مما يدل على مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام ، ولا حاجة تدعو إلى قولهم : كانا يأكلان الطعام ; كناية عن خروجه ، وإن كان قد قاله جماعة من المفسرين ، وإنما ذلك تنبيه على سمات الحدوث . والحاجة إلى التغذي المفتقر إليه الحيوان في قيامه المنزه عنه الإله ، قال تعالى : ( وهو يطعم ولا يطعم ) وإن كان يلزم من الاحتياج إلى أكل الطعام خروجه ، فليس مقصودا من اللفظ مستعارا له ذلك . وهذه الجملة استئناف إخبار عن المسيح وأمه ، منبهة كما ذكرنا على سمات الحدوث ، وأنهما مشاركان للناس في ذلك ، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب . ( انظر كيف نبين لهم الآيات ) [ ص: 538 ] أي الأعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان ما اعتقدوه ، وهذا أمر للنبي ، صلى الله عليه وسلم . وفي ضمن ذلك الأمر لأمته في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبول ما نبهوا عليه . ( ثم انظر أنى يؤفكون ) كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق ، لأن الأول : أثر بالنظر في كونه تعالى أوضح لهم الآيات وبينها بحيث لا يقع معها لبس ، والأمر الثاني : هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحق وتأمله ، أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الضد منه ، وهذان أمرا تعجيب . ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين ، وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها ، ثم ينظر في حال من بينت له فيرى إعراضهم عن الآيات أعجب من توضيحها ، لأنه يلزم من تبيينها تبينها لهم والرجوع إليها ، فكونهم أفكوا عنها أعجب .