الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر هذا من بقية خطابه تعالى لموسى - عليه السلام - وفيه تبشير له ببعثة محمد ، وذكر لصفاته ، وإعلام له أيضا أنه ينزل كتابا يسمى الإنجيل ، ومعنى الاتباع الاقتداء فيما جاء به اعتقادا وقولا وفعلا ، وجمع هنا بين الرسالة والنبوة لأن الرسالة في بني آدم أعظم شرفا من النبوة ، أو لأنها بالنسبة إلى الآدمي ، والملك أعم فبدئ به ، والأمي الذي هو على صفة أمة العرب " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " فأكثر العرب لا يكتب ولا يقرأ ، قاله الزجاج ، وكونه أميا من جملة المعجز ; وقيل : نسبة إلى أم القرى وهي مكة ، وروي عن يعقوب وغيره أنه قرأ : الأمي ، بفتح الهمزة ، وخرج على أنه من تغيير النسب ، والأصل الضم ، كما قيل في النسب إلى أمية : أموي ، بالفتح ، أو على أنه نسب إلى المصدر من أم ، ومعناه المقصود ، أي : لأن هذا النبي مقصد للناس وموضع أم ، وقال أبو الفضل الرازي : وذلك مكة ، فهو منسوب إليها ، لكنها ذكرت إرادة للحرم أو الموضع ، ومعنى يجدونه ، أي : يجدون وصفه ونعته ، قال التبريزي : في التوراة ، أي : سأقيم له نبيا من إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فيه ، ويقول لهم كلما أوصيته ، وفيها : وأما النبي فقد باركت عليه جدا جدا ، وسأدخره لأمة عظيمة ، وفي الإنجيل : يعطيكم الفارقليط آخر ، يعطيكم معلم الدهر كله ، وقال المسيح : أنا أذهب وسيأتيكم الفارقليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه ويمدحني ويشهد لي ، ويحتمل أن يكون يأمرهم بالمعروف إلى آخره متعلقا بـ يجدونه ، فيكون في موضع الحال على سبيل التجوز فيكون حالا مقدرة ، ويحتمل أن يكون من وصف النبي ، كأنه قيل : الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر وكذا وكذا ، وقال أبو علي : يأمرهم : تفسير لما كتب من ذكره ، كقوله : خلقه من تراب ، ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في يجدونه ; لأن الضمير للذكر والاسم ، والاسم والذكر لا يأمران ، قال ابن عباس وعطاء : يأمرهم بالمعروف ، أي : بخلع الأنداد ومكارم الأخلاق وصلة الأرحام ، وقال مقاتل : الإيمان ; وقيل : الحق ، وقال الزجاج : كل ما عرف بالشرع ، والمنكر : قال ابن عباس : عبادة الأوثان وقطع الأرحام ، وقال مقاتل : الشرك ; وقيل : الباطل ; وقيل : الفساد ومبادئ الأخلاق ; وقيل : القول في صفات الله بغير علم ، والكفر بما أنزل ، وقطع الرحم والعقوق .
ويحل لهم الطيبات تقدم ذكر الخلاف في الطيبات [ ص: 404 ] في قوله : كلوا من طيبات أهي الحلال أو المستلذ ، وكلاهما قيل هنا ، وقال الزمخشري : ما حرم عليهم من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها ، أو ما طاب في الشريعة ، واللحم مما ذكر اسم الله عليه من الذبائح ، وما خلا كسبه من السحت ، انتهى ; وقيل : ما كانت العرب تحرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، واستبعد أبو عبد الله الرازي قول من قال : إنها المحللات ، لتقديره ويحل لهم المحللات ، قال : وهذا محض التكذيب ، ولخروج الكلام عن الفائدة لأنا لا ندري ما أحل لنا وكم هو ، قال : بل الواجب أن يراد المستطابة بحسب الطبع ؛ لأن تناولها يفيد اللذة ، والأصل في المنافع الحل ، فدلت الآية على أن كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع حلال إلا ما خرج بدليل منفصل .
ويحرم عليهم الخبائث قيل : المحرمات ; وقيل : ما تستخبثه العرب كالعقرب والحية والحشرات ; وقيل : الدم والميتة ولحم الخنزير ، وعن ابن عباس : ما في سورة المائدة إلى قوله : ذلكم فسق .
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم قرأ طلحة : ويذهب عنهم إصرهم ، وتقدم تفسير الإصر في آخر سورة البقرة ، وفسره هنا قتادة وابن جبير ومجاهد والضحاك والحسن وغيرهم بالثقل ، وقرأ ابن عامر : آصارهم جمع إصر ، وقرئ : أصرهم ، بفتح الهمزة وبضمها ، فمن جمع فباعتبار متعلقات الإصر ; إذ هي كثيرة ، ومن وحد فلأنه اسم جنس ، والأغلال مثل لما كلفوا من الأمور الصعبة ، كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتما من القاتل - عمدا كان أو خطأ - ، وترك الاشتغال يوم السبت ، وتحريم العروق في اللحم ، وعن عطاء : أن بني إسرائيل كانوا إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم ، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة ، وروي أن موسى - عليه السلام - رأى يوم السبت رجلا يحمل قصبا فضرب عنقه ، وهذا المثل كما قالوا : جعلت هذا طوقا في عنقك ، وقالوا طوقها طوق الحمامة ، وقال الهذلي :
وليس كهذا الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل فصار الفتى كالكهل ليس بقابل
سوى العدل شيئا واستراح العواذل
وليس ثم سلاسل ، وإنما أراد أن الإسلام ألزمه أمورا لم يكن ملتزما لها قبل ذلك ، كما قال : الإيمان قيد الفتك ، وقال ابن زيد : الأغلال ، يريد في قوله : غلت أيديهم فمن آمن زالت عنه الدعوة وتغليلها .
فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون وعزروه أثنوا عليه ومدحوه . قال الزمخشري : منعوه حتى لا يقوى عليه عدو ، وقرأ الجحدري وقتادة وسليمان التيمي وعيسى بالتخفيف ، وقرأ جعفر بن محمد : وعززوه ، بزايين والنور : القرآن ، قاله قتادة ، وقال ابن عطية : هو كناية عن جملة الشريعة . وقيل : ( مع ) بمعنى عليه ، أي : الذي أنزل عليه . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : أنزل مع نبوته ; لأن استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به ، وعلى هذين القولين يكون العامل في الظرف أنزل ، ويجوز عندي أن يكون ( معه ) ظرفا في موضع الحال ، فالعامل فيه محذوف ، تقديره : أنزل كائنا معه ، وهي حال مقدرة ، كقوله : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، فحالة الإنزال لم يكن معه لكنه صار معه بعد ، كما أن الصيد لم يكن وقت المرور ، وقال الزمخشري : ويجوز أن يعلق بـ اتبعوا ، أي : واتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته وبما أمر به ، أي : واتبعوا القرآن ، كما اتبعه مصاحبين له في اتباعه ، وفي قوله : فالذين آمنوا به إلى آخره إشارة إلى من آمن من أعيان بني إسرائيل بالرسول ، كعبد الله بن سلام وغيره من أهل الكتابين .


