إحداهما : هي قوله هنا : فأتوا حرثكم [ 2 \ 223 ] ; لأن قوله : ( فأتوا ) أمر بالإتيان بمعنى الجماع ، وقوله : ( حرثكم ) ، يبين أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة ، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى ; لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد ، كما هو ضروري .
الثانية : قوله تعالى : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم [ 2 \ 187 ] لأن المراد بما كتب الله لكم الولد ، على قول الجمهور وهو اختيار ، وقد نقله عن ابن جرير ابن عباس ومجاهد والحكم وعكرمة والحسن البصري والسدي ، والربيع ، ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل . فالقبل إذن هو المأمور بالمباشرة فيه بمعنى الجماع ، فيكون معنى الآية فالآن باشروهن ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد ، الذي هو القبل دون غيره ، بدليل قوله : والضحاك بن مزاحم وابتغوا ما كتب الله لكم [ 2 \ 187 ] ، يعني الولد .
ويتضح لك من هذا أن معنى قوله تعالى : أنى شئتم [ 2 \ 223 ] يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث على أي حالة شاء الرجل ، سواء كانت المرأة مستلقية ، أو باركة ، أو على جنب ، أو غير ذلك ، ويؤيد هذا ما رواه الشيخان وأبو داود ، عن والترمذي جابر - رضي الله عنه - قال : اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم . كانت
فظهر من هذا أن جابرا - رضي الله عنه - يرى أن معنى الآية : فأتوهن في القبل على أية حالة شئتم ، ولو كان من ورائها .
والمقرر في علوم الحديث أن له حكم الرفع كما عقده صاحب " طلعة الأنوار " ، بقوله : [ الرجز ] تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول
تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق
وقد قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : فأتوا حرثكم أنى شئتم ما نصه : وما استدل به المخالف من أن قوله عز وجل : أنى شئتم شامل للمسالك بحكم عمومها ، فلا حجة فيها ; إذ هي مخصصة بما ذكرناه ، وبأحاديث صحيحة حسان [ ص: 93 ] شهيرة ، رواها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر صحابيا ، بمتون مختلفة ، كلها متواردة على تحريم ، ذكرها إتيان النساء في الأدبار في " مسنده " أحمد بن حنبل وأبو داود والنسائي وغيرهم . والترمذي
وقد جمعها بطرقها في جزء سماه " تحريم المحل المكروه " . أبو الفرج الجوزي
ولشيخنا أبي العباس أيضا في ذلك جزء سماه " إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار " قلت : وهذا هو الحق المتبع ، والصحيح في المسألة .
ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه ، وقد حذرنا من زلة العالم . وقد روي عن خلاف هذا ، وتكفير من فعله وهذا هو اللائق به رضي الله عنه ، وكذلك كذب ابن عمر نافع من أخبر عنه بذلك ، كما ذكر ، وقد تقدم . النسائي
وأنكر ذلك مالك واستعظمه ، وكذب من نسب ذلك إليه ، وروى الدارمي في " مسنده " عن ، قال : قلت سعيد بن يسار أبي الحباب : ما تقول في الجواري حين أحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكرت له الدبر . فقال : هل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ وأسند عن لابن عمر : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " خزيمة بن ثابت " ومثله عن أيها الناس إن الله لا يستحي من الحق ، لا تأتوا النساء في أعجازهن علي بن طلق ، وأسند عن عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أبي هريرة " . من أتى امرأة في دبرها لم ينظر الله إليه يوم القيامة
وروي في مسنده عن أبو داود الطيالسي قتادة ، عن ، عن أبيه ، عن عمرو بن شعيب ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " عبد الله بن عمرو " يعني إتيان المرأة في دبرها . وروي عن تلك اللوطية الصغرى أنه قال : كان بدء عمل طاوس قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن ، قال ابن المنذر : وإذا ثبت الشيء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استغنى به عما سواه ، من القرطبي بلفظه . وقال القرطبي أيضا ما نصه : وقال مالك لابن وهب ، وعلي بن زياد ، لما أخبراه أن ناسا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك ، فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل ، فقال : كذبوا علي ، كذبوا علي ، كذبوا علي ، ثم قال : ألستم قوما عربا ؟ ألم يقل الله تعالى : نساؤكم حرث لكم ، وهل يكون الحرث إلا في موضع المنبت ؟ منه بلفظه أيضا .
[ ص: 94 ] ومما يؤيد أنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن ، ; لأجل القذر العارض له ، مبينا أن ذلك القذر هو علة المنع بقوله : أن الله تعالى حرم الفرج في الحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض [ 2 \ 222 ] فمن باب أولى تحريم الدبر للقذر والنجاسة اللازمة ، ولا ينتقض ذلك بجواز ; لأن دم الاستحاضة ليس في الاستقذار كدم الحيض ، ولا كنجاسة الدبر ; لأنه دم انفجار العرق فهو كدم الجرح ، ومما يؤيد منع الوطء في الدبر إطباق العلماء على أن وطء المستحاضة معيبة ترد بذلك العيب . الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها
قال : لم يختلف العلماء في ذلك ، إلا شيئا جاء عن ابن عبد البر من وجه ليس بالقوي أن الرتقاء لا ترد بالرتق . والفقهاء كلهم على خلاف ذلك . عمر بن عبد العزيز
قال القرطبي : وفي إجماعهم هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء ولو كان موضعا للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج ، فإن قيل : قد يكون رد الرتقاء لعلة عدم النسل فلا ينافي أنها توطأ في الدبر ، فالجواب أن العقم لا يرد به ، ولو كانت علة رد الرتقاء عدم النسل لكان العقم موجبا للرد .
وقد حكى القرطبي الإجماع على أن العقم لا يرد به ، في تفسير قوله تعالى : فأتوا حرثكم فإذا تحققت من هذه الأدلة أن وطء المرأة في دبرها حرام فاعلم أن من روي عنه جواز ذلك كابن عمر ، وأبي سعيد وجماعات من المتقدمين والمتأخرين ، يجب حمله على أن مرادهم بالإتيان في الدبر إتيانها في الفرج من جهة الدبر ، كما يبينه حديث جابر ، والجمع واجب إذا أمكن . قال ابن كثير في تفسير قوله : فأتوا حرثكم أنى شئتم ما نصه : قال أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الدارمي في " مسنده " : حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا الليث ، عن ، عن الحارث بن يعقوب ، قال : قلت سعيد بن يسار أبي الحباب : ما تقول في الجواري أيحمض لهن ؟ قال : وما التحميض ؟ فذكر الدبر ، فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ؟ وكذا رواه لابن عمر ابن وهب ، وقتيبة ، عن الليث .
وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك ، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ، ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم منه بلفظه ، وقد علمت أن قوله : أنى شئتم ، [ ص: 95 ] لا دليل فيه للوطء في الدبر ; لأنه مرتب بالفاء التعقيبية ، على قوله : نساؤكم حرث لكم ومعلوم أن الدبر ليس محل حرث ، ولا ينتقض هذا بجواز الجماع في عكن البطن ، وفي الفخذين ، والساقين ، ونحو ذلك مع أن الكل ليس محل حرث ; لأن ذلك يسمى استمناء لا جماعا . والكلام في الجماع ; لأن المراد بالإتيان في قوله : فأتوا حرثكم الجماع ، والفارق موجود ; لأن عكن البطن ونحوها لا قذر فيها ، والدبر فيه القذر الدائم ، والنجس الملازم .
وقد عرفنا من قوله : قل هو أذى فاعتزلوا النساء [ 2 \ 222 ] أن الوطء في محل الأذى لا يجوز .
وقال بعض العلماء : معنى قوله : من حيث أمركم الله ، أي : من المكان الذي أمركم الله تعالى بتجنبه ; لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوه إلى غيره ، ويروى هذا القول عن ابن عباس ومجاهد ، وقتادة ، والربيع وغيرهم ، وعليه فقوله : من حيث أمركم الله يبينه : قل هو أذى فاعتزلوا النساء الآية ; لأن من المعلوم أن محل الأذى الذي هو الحيض إنما هو القبل ، وهذا القول راجع في المعنى إلى ما ذكرنا ، وهذا القول مبني على أن النهي عن الشيء أمر بضده ; لأن ما نهى الله عنه فقد أمر بضده ، ولذا تصح الإحالة في قوله : أمركم الله على النهي في قوله : ولا تقربوهن حتى يطهرن والخلاف في النهي عن الشيء هو أمر بضده معروف في الأصول ، وقد أشار له في " مراقي السعود " بقوله : [ الرجز ]
والنهي فيه غابر الخلاف أو أنه أمر بالائتلاف
وقيل لا قطعا كما في المختصر وهو لدى السبكي رأي ما انتصر
ومراده بغابر الخلاف : هو ما ذكر قبل هذا من الخلاف في الأمر بالشيء ، هل هو عين النهي عن ضده ، أو مستلزم له أو ليس عينه ولا مستلزما له ؟ يعني أن ذلك الخلاف أيضا في النهي عن الشيء هل هو عين الأمر بضده ؟ أو ضد من أضداده إن تعددت ؟ أو مستلزم لذلك ؟ أو ليس عينه ولا مستلزما له ؟ وزاد في النهي قولين : أحدهما : أنه أمر بالضد اتفاقا .
والثاني : أنه ليس أمرا به قطعا ، وعزا الأخير لابن الحاجب في " مختصره " ، وأشار إلى أن السبكي في " جمع الجوامع " ذكر أنه لم ير ذلك القول لغير . ابن الحاجب
[ ص: 96 ] وقال : معنى الزجاج من حيث أمركم الله أي : من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة ، ولا تقربوهن من حيث لا يحل ، كما إذا كن صائمات ، أو محرمات ، أو معتكفات .
وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد : من حيث أمركم الله يعني طاهرات غير حيض ، والعلم عند الله تعالى .