قال : زل قوم في آخر الزمان فقالوا : إن ابن العربي المالكي لا يلزم ، وجعلوه واحدة ونسبوه إلى السلف الأول فحكوه عن الطلاق الثلاث في كلمة علي ، والزبير ، ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود وعزوه إلى وابن عباس ، الضعيف المنزلة ، المغمور المرتبة ، ورووا في ذلك حديثا ليس له أصل ، وغوى قوم من أهل المسائل فتتبعوا الأهواء المبتدعة فيه وقالوا : إن قوله أنت طالق ثلاثا كذب ; لأنه لم يطلق ثلاثا ، كما لو قال : طلقت ثلاثا ولم يطلق إلا واحدة ، وكما لو قال : أحلف ثلاثا كانت يمينا واحدة . الحجاج بن أرطاة
ولقد طوفت في الآفاق ، ولقيت من علماء الإسلام ، وأرباب المذاهب كل صادق ، فما سمعت لهذه المسألة بخبر ، ولا أحسست لها بأثر ، إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزا ، ولا يرون الطلاق واقعا ، ولذلك قال فيهم ابن سكرة الهاشمي : [ السريع ]
يا من يرى المتعة في دينه حلا وإن كانت بلا مهر ولا يرى تسعين تطليقة
تبين منه ربة الخدر من هاهنا طابت مواليدكم
فاغتنموها يا بني الفطر
وذكر حديث اللعان : ولا يقر على الباطل ; ولأنه جمع ما فسح له في تفريقه ، فألزمته الشريعة حكمه وما نسبوه إلى الصحابة كذب بحت ، لا أصل له في كتاب ولا رواية له عن أحد . فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يغير عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -
وقد أدخل مالك في " موطئه " عن علي أن الحرام ثلاث لازمة في كلمة ، فهذا في معناها ، فكيف إذا صرح بها . وأما حديث فغير مقبول في الملة ، ولا عند أحد من الأئمة ، فإن قيل : ففي " صحيح الحجاج بن أرطاة مسلم " عن وذكر حديث ابن عباس أبي الصهباء المذكور ، قلنا : هذا لا متعلق فيه من خمسة أوجه : الأول : أنه حديث مختلف في صحته فكيف يقدم على إجماع الأمة ؟ ولم يعرف لها في هذه المسألة خلاف إلا عن قوم انحطوا عن رتبة التابعين وقد سبق العصران الكريمان والاتفاق على لزوم الثلاث ، فإن رووا ذلك عن أحد منهم فلا تقبلوا منهم إلا ما يقبلون منكم : نقل العدل عن العدل . ولا تجد هذه المسألة منسوبة إلى أحد من السلف أبدا .
الثاني : أن هذا الحديث لم يرو إلا عن ولم يرو عنه إلا من طريق ابن عباس ، فكيف يقبل ما لم يروه من الصحابة إلا واحد وما لم يروه عن ذلك الصحابي إلا واحد ؟ وكيف خفي على جميع الصحابة وسكتوا عنه إلا طاوس ؟ وكيف خفي على أصحاب ابن عباس إلا ابن عباس ؟ اهـ محل الغرض من كلام طاوسا ابن العربي ، وقال : ورواية ابن عبد البر وهم وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار طاوس بالحجاز ، والشام ، والعراق ، والمشرق ، والمغرب . وقد قيل : إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي . ابن عباس
قال مقيده عفا الله عنه : إن مثل هذا لا يثبت به تضعيف هذا الحديث ; لأن الأئمة كمعمر وغيرهما رووه عن وابن جريج وهو إمام ، عن ابن عباس ، عن طاوس ، ورواه عن ابن عباس أيضا طاوس ، وهو ثقة حافظ . وانفراد الصحابي لا يضر ولو لم يرو عنه أصلا إلا واحد ، كما أشار إليه إبراهيم بن ميسرة العراقي في " ألفيته " بقوله : [ الرجز ]
في الصحيح أخرجا المسيبا وأخرج الجعفي لابن تغلبا
[ ص: 131 ] يعني : أن الشيخين أخرجا حديث المسيب بن حزن ، ولم يرو عنه أحد غير ابنه سعيد .
وأخرج حديث البخاري عمرو بن تغلب النمري ، ويقال العبدي ولم يرو عنه غير هذا مراده . وقد ذكر الحسن البصري أن ابن أبي حاتم عمرو بن تغلب روى عنه أيضا الحكم بن الأعرج ، قاله ابن حجر ، وغيرهما . وابن عبد البر
والحاصل أن حديث طاوس ثابت في " صحيح مسلم " بسند صحيح ، وما كان كذلك لا يمكن تضعيفه إلا بأمر واضح ، نعم لقائل أن يقول : إن خبر الآحاد إذا كانت الدواعي متوفرة إلى نقله ولم ينقله إلا واحد ونحوه ، أن ذلك يدل على عدم صحته . ووجهه أن توفر الدواعي يلزم منه أن النقل تواترا والاشتهار ، فإن لم يشتهر دل على أنه لم يقع ; لأن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم ، وهذه قاعدة مقررة في الأصول ، أشار إليها في " مراقي السعود " بقوله عاطفا على ما يحكم فيه بعدم صحة الخبر : [ الرجز ] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وخبر الآحاد في السني حيث دواعي نقله تواترا
نرى لها لو قاله تقررا
ومراده أن مما يجزم بعدم صحته الخبر المنقول آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله .
وقال في " مختصره الأصولي " مسألة : إذا انفرد واحد فيما يتوفر الدواعي إلى نقله ، وقد شاركه خلق كثير . كما لو انفرد واحد بقتل خطيب على المنبر في مدينة فهو كاذب قطعا خلافا ابن الحاجب للشيعة . اهـ محل الغرض منه بلفظه . وفي المسألة مناقشات وأجوبة عنها معروفة في الأصول .
قال مقيده عفا الله عنه : ولا شك أنه على القول بأن معنى حديث المذكور أن الثلاث بلفظ واحد كانت تجعل واحدة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - طاوس وأبي بكر ، وصدرا من خلافة عمر ، ثم إن عمر غير ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون في زمن أبي بكر ، وعامة الصحابة أو جلهم يعلمون ذلك . فالدواعي إلى نقل ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون من بعده ، متوفرة توفرا لا يمكن إنكاره ، لأن يرد بذلك التغيير الذي أحدثه [ ص: 133 ] عمر فسكوت جميع الصحابة عنه وكون ذلك لم ينقل منه حرف عن غير ، يدل دلالة واضحة على أحد أمرين : أحدهما : أن حديث ابن عباس الذي رواه عن طاوس ليس معناه أنها بلفظ واحد ، بل بثلاثة ألفاظ في وقت واحد كما قدمنا ، وكما جزم به ابن عباس ، وصححه النسائي النووي والقرطبي وابن سريج . وعليه فلا إشكال ; لأن تغيير عمر للحكم مبني على تغيير قصدهم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال : فمن قال أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، ونوى التأكيد فواحدة ، وإن نوى الاستئناف بكل واحدة فثلاث . واختلاف محامل اللفظ الواحد لاختلاف نيات اللافظين به لا إشكال فيه ; لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " . " وإنما لكل امرئ ما نوى "
والثاني : أن يكون الحديث غير محكوم بصحته لنقله آحادا مع توفر الدواعي إلى نقله ، والأول أولى وأخف من الثاني ، وقال القرطبي في المفهم في الكلام على حديث المذكور : وظاهر سياقه يقتضي عن جميعهم أن معظمهم كانوا يرون ذلك ، والعادة في مثل هذا أن يفشو الحكم وينتشر فكيف ينفرد به واحد عن واحد ؟ قال : فهذا الوجه يقتضي التوقف عن العمل بظاهره ، إن لم يقتض القطع ببطلانه . اهـ منه بواسطة نقل طاوس ابن حجر في " فتح الباري " عنه ، وهو قوي جدا بحسب المقرر في الأصول كما ترى .