وقال النووي في " شرح مسلم " : وبه قال خلائق من الصحابة والتابعين وجماهير الفقهاء والمحدثين منهم : ، سعد بن أبي وقاص إلى آخره ، كما في " شرح المهذب " . وابن عباس
وقال في " المغني " في شرحه لقول ابن قدامة الخرقي : ويتطيب .
وجملة ذلك أنه في بدنه خاصة ، ولا فرق بين ما يبقى عينه كالمسك والغالية ، أو أثره كالعود والبخور وماء الورد ، هذا قول يستحب لمن أراد الإحرام أن يتطيب ، ابن عباس وابن الزبير ، وسعد بن أبي وقاص وعائشة ، ، وأم حبيبة ومعاوية ، وروي عن ، محمد ابن الحنفية ، وأبي سعيد الخدري وعروة ، والقاسم ، والشعبي . انتهى محل الغرض منه . وابن جريج
وقال جماعة آخرون من أهل العلم : لا يجوز التطيب عند إرادة الإحرام ، فإن فعل ذلك لزمه غسله حتى يذهب أثره وريحه ، وهذا هو مذهب مالك .
وقال النووي في " شرح مسلم " : وقال آخرون بمنعه منهم : ، الزهري ومالك ، ومحمد بن الحسن ، وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين ، ا هـ .
وقال في " شرح المهذب " : وقال عطاء والزهري ومالك ومحمد بن الحسن : يكره .
[ ص: 82 ] قال : وحكي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين ، ا هـ . القاضي عياض
وقال في " المغني " : وكان ابن قدامة عطاء يكره ذلك ، وهو قول مالك ، وروي ذلك عن عمر وعثمان ، - رضي الله عنهم - ، ا هـ . وابن عمر
وإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة : فهذه أدلتهم ومناقشتها وما يظهر رجحانه بالدليل منها .
أما الذين منعوا ذلك : فقد احتجوا بحديث - رضي الله عنه - وهو متفق عليه . قال يعلى بن أمية التميمي في صحيحه ، قال البخاري أبو عاصم : أخبرنا ، أخبرني ابن جريج عطاء : أن أخبره : صفوان بن يعلى يعلى قال لعمر - رضي الله عنه - : أرني النبي - صلى الله عليه وسلم - حين يوحى إليه ، قال : فبينما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجعرانة ، ومعه نفر من أصحابه ، جاء رجل فقال : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : كيف ترى في رجل أحرم بعمرة ، وهو متضمخ بطيب ؟ فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة ، فجاءه الوحي فأشار عمر - رضي الله عنه - إلى يعلى ، فجاء يعلى ، وعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوب ، وقد أظل به ، فأدخل رأسه فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمر الوجه ، وهو يغط ، ثم سري عنه فقال : " أين الذي سأل عن العمرة " فأوتي برجل فقال : " اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات ، وانزع عنك الجبة ، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك " قلت أن لعطاء : أراد الإنقاء حين أمره أن يغسل ثلاث مرات ؟ قال : نعم . انتهى من صحيح قالوا : فهذا الحديث الصحيح صرح فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - بغسل الطيب الذي تضمخ به قبل الإحرام ، وأمر بإنقائه كما قاله البخاري عطاء ، ولا شك أن هذا الحديث يقتضي أن الطيب في بدنه إذ لو كان في الجبة ، دون البدن لكفى نزع الجبة كما ترى ، خلافا لما توهمه ترجمة الحديث الذي ترجمه بها ، وهي قوله : باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب . وقول البخاري في أول هذا الإسناد : قال البخاري أبو عاصم : قد قدمنا الكلام على مثله مستوفى وبينا أنه صحيح ، سواء قلنا : إنه موصول كما هو الصحيح ، أو معلق ; لأنه أورده بصيغة الجزم .
وقال أيضا في صحيحه : في أبواب العمرة : حدثنا البخاري أبو نعيم ، حدثنا همام ، حدثنا عطاء قال : حدثني : يعني عن أبيه : صفوان بن يعلى بن أمية بالجعرانة وعليه جبة ، وعليه أثر الخلوق ، أو قال صفرة ، فقال : كيف [ ص: 83 ] تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ فأنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - فستر بثوب ، ووددت أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزل عليه الوحي ، فقال عمر : تعال أيسرك أن تنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزل الله الوحي ؟ قلت : نعم ، فرفع طرف الثوب ، فنظرت إليه له غطيط : وأحسبه قال : كغطيط البكر ، فلما سري عنه قال : " أين السائل عن العمرة ، اخلع عنك الجبة ، واغسل أثر الخلوق عنك ، وأنق الصفرة واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك " انتهى منه . وقوله في هذا الحديث : " أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو " صريح في أن غسل ذلك وإنقاءه من بدنه ; لأن ما في الجبة من الخلوق ، والصفرة يزول بخلعها كما ترى . اخلع عنك الجبة واغسل أثر الخلوق وأنق الصفرة
وقال مسلم في صحيحه : حدثنا ، حدثنا شيبان بن فروخ همام ، حدثنا ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبيه - رضي الله عنه - قال : " صفوان بن يعلى بن أمية بالجعرانة عليه جبة ، وعليها خلوق أو قال : أثر صفرة . فقال : كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي ؟ قال : وأنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الوحي ، فستر بثوب وكان يعلى يقول : وددت أن أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد نزل عليه الوحي ، قال : فقال : أيسرك أن تنظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أنزل عليه الوحي ؟ قال : فرفع عمر طرف الثوب ، فنظرت إليه له غطيط قال : وأحسبه قال : كغطيط البكر . قال : فلما سري عنه قال : " أين السائل عن العمرة ؟ : اغسل عنك أثر الصفرة " أو قال : " أثر الخلوق - واخلع عنك جبتك ، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك " . جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو
وفي لفظ في صحيح مسلم عن يعلى قال : بالجعرانة ، وأنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه مقطعات - يعني جبة - وهو متضمخ بالخلوق فقال : إني أحرمت بالعمرة ، وعلي هذا ، وأنا متضمخ بخلوق ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما كنت صانعا في حجك ؟ " قال : أنزع عني هذه الثياب ، وأغسل عني هذا الخلوق ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما كنت صانعا في حجك ، فاصنعه في عمرتك " وفي لفظ في صحيح أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل ، وهو مسلم ، عن يعلى ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " وفي لفظ في صحيح أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات ، وأما الجبة فانزعها ، ثم اصنع في عمرتك ما تصنع في حجك " مسلم عن يعلى - رضي الله عنه - : " بالجعرانة قد أهل بالعمرة ، وهو مصفر لحيته ورأسه ، وعليه جبة ، فقال يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إني أحرمت بعمرة ، وأنا كما ترى فقال : " انزع عنك الجبة ، واغسل عنك الصفرة ، وما كنت صانعا في حجك ، فاصنعه في عمرتك " . وفي لفظ في صحيح أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مسلم عن يعلى أيضا قال : " " انتهى من صحيح انزع عنك جبتك واغسل أثر الخلوق الذي بك ، [ ص: 84 ] وافعل في عمرتك ما كنت فاعلا في حجك مسلم .
قالوا : فهذه الروايات الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : فيها التصريح بأن من تضمخ بالطيب قبل إحرامه لا يجوز له الدوام على ذلك ، بل يجب غسله ثلاثا ، وإنقاؤه ، ولا شك أن بعض الروايات الصحيحة التي أوردنا صريحة في ذلك . وهذا هو حجة مالك ومن ذكرنا معه من أهل العلم في وجوب إزالة المحرم الطيب ، الذي تلبس به قبل إحرامه .
وروى مالك في " الموطأ " عن حميد بن قيس ، عن : " عطاء بن أبي رباح بحنين ، وعلى الأعرابي قميص ، وبه أثر صفرة فقال : يا رسول الله ، إني أهللت بعمرة ، فكيف تأمرني أن أصنع ؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " انزع قميصك ، واغسل هذه الصفرة عنك ، وافعل في عمرتك ما تفعل في حجتك " ، ا هـ . أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو
والذين قالوا بهذا قالوا : يعتضد حديث يعلى المتفق عليه ببعض الآثار الواردة عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - كما أشرنا إليه غير بعيد ، وقد روىمالك في " الموطأ " ، عن نافع ، عن : أن أسلم مولى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وجد ريح طيب ، وهو بالشجرة ، فقال : ممن ريح هذا الطيب ، فقال عمر بن الخطاب : مني يا أمير المؤمنين ، فقال منك لعمر الله فقال معاوية بن أبي سفيان معاوية : إن أم حبيبة طيبتني يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : عزمت عليك لترجعن فلتغسلنه .
وروى مالك في " الموطأ " عن الصلت بن زيد عن غير واحد من أهله : أن - رضي الله عنه - وجد ريح طيب وهو بالشجرة ، وإلى جنبه عمر بن الخطاب كثير بن الصلت ، فقال عمر : ممن ريح هذا الطيب ؟ فقال كثير : مني يا أمير المؤمنين ، لبدت رأسي ، وأردت ألا أحلق ، فقال عمر : فاذهب إلى شربة فادلك رأسك ، حتى تنقيه ، ففعل كثير بن الصلت . قال مالك : الشربة حفير تكون عند أصل النخلة . انتهى من " الموطأ " .
قالوا : ففعل هذا الخليفة الراشد في زمن خلافته مطابق لما تضمنه حديث المتفق عليه ، فتبين بذلك أنه غير منسوخ ، وذكر يعلى بن أمية الزرقاني في " شرح الموطأ " : أن عمر أنكر أيضا ذلك على ، وقال : إنه رواه البراء بن عازب عن ابن أبي شيبة ، كما أنكر على بشير بن يسار معاوية وكثير المذكورين ، قال : فهذا عمر قد أنكر على صحابيين ، وتابعي كبير الطيب بمحضر الجمع الكثير من الناس صحابة وغيرهم ، وما أنكر عليه منهم أحد ، فهو من أقوى الأدلة على تأويل حديث عائشة ، ثم ذكر عن ، عن وكيع شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه : أن عثمان رأى رجلا قد تطيب عند الإحرام ، فأمره أن يغسل رأسه بطين ، ا هـ .
[ ص: 85 ] وقد ثبت في صحيح مسلم عن : أن ابن عمر محمد بن المنتشر سأله عن الرجل يتطيب ، ثم يصبح محرما ، فقال : " ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا ، لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك " . هذا لفظ مسلم في صحيحه . وفيه بعده رد عائشة على ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . ابن عمر
فحديث يعلى المتفق عليه ، والآثار التي ذكرنا عن بعض الصحابة ، ومنها ما لم نذكره هو حجة مالك ، ومن ذكرنا معه في منع التطيب قبل الإحرام ، ووجوب غسله ، وإنقائه إن فعل ذلك ، ولا فدية فيه عندهم مطلقا ، وذكر بعضهم : أن المشهور عن مالك : الكراهة لا التحريم .
واحتج الجمهور القائلون باستحباب التطيب عند الإحرام بما رواه الشيخان وغيرهما ، عن عائشة - رضي الله عنها - وبعض الآثار الدالة على ذلك ، عن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - . قال في صحيحه : حدثنا البخاري عبد الله بن يوسف ، أخبرنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفي صحيح قالت : كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت : قبل هذا الحديث متصلا به من طريق البخاري الأسود ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : . وقد ذكرنا هذا الحديث في الكلام على التحلل الأول . كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم
وقال - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا البخاري علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم : أنه سمع أباه وكان أفضل أهل زمانه يقول : سمعت عائشة - رضي الله عنها - تقول : انتهى منه . طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي هاتين حين أحرم ، ولحله حين أحل قبل أن يطوف ، وبسطت يديها
وقال مسلم - رحمه الله - في صحيحه : حدثنا ، أخبرنا محمد بن عباد سفيان ، عن ، عن الزهري عروة ، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : . وفي لفظ طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرمه ، حين أحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت لمسلم عنها من طريق قالت : القاسم بن محمد . وفي لفظ عند طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ، لحرمه حين أحرم ، ولحله حين أحل ، قبل أن يطوف بالبيت مسلم عنها قالت : . وفي لفظ عنها عند كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه ، قبل أن يحرم ، ولحله قبل أن يطوف بالبيت مسلم قالت : . طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي بذريرة في حجة الوداع ، للحل والإحرام
[ ص: 86 ] وفي النهاية : الذريرة : نوع من الطيب مجموع من أخلاط . وقال السيوطي في تلخيصه للنهاية : وقيل هي فتات قصب ، وقال النووي في " شرح مسلم " : هي فتات قصب طيب ، يجاء به من الهند ، وقد قدمنا في سورة " الأنعام " أن الذريرة قصب يجاء به من الهند كقصب النشاب أحمر يتداوى به . وفي لفظ عند مسلم أيضا ، عن عروة قال : عائشة - رضي الله عنها - بأي شيء طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه ؟ قالت : بأطيب الطيب ، وفي لفظ : بأطيب ما أقدر عليه ، قبل أن يحرم ، ثم يحرم . وفي لفظ : بأطيب ما وجدت . وفي لفظ عنها قالت : سألت وفي لفظ عنها قالت : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ، . والألفاظ المماثلة لهذا متعددة في صحيح لكأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يهل . وفي لفظ : وهو يلبي مسلم عنها - رضي الله عنها - وفي لفظ عنها قالت : . وفي لفظ عنها قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يحرم ، يتطيب بأطيب ما يجد ، ثم أرى وبيص الدهن في رأسه ولحيته
. وفي صحيح كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم ، ويوم النحر ، قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك مسلم : عائشة لما بلغها قول المتقدم : لأن أطلى بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك ، قالت : أنا طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه ، ثم طاف في نسائه ، ثم أصبح محرما ابن عمر ، ا هـ . كل هذه الألفاظ في صحيح أن مسلم . قالوا فهذا الحديث الذي اتفق عليه الشيخان ، عن - رضي الله عنها - دليل صحيح صريح في مشروعية الطيب قبل الإحرام ، وإن كان أثره باقيا بعد الإحرام ، بل ولو بقي عينه وريحه ; لأن رؤيتها وبيص الطيب في مفارقه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم صريح في ذلك ، قالوا : وقد وردت آثار عن بعض الصحابة بذلك ، تدل على عدم خصوصية ذلك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . أم المؤمنين عائشة
قال صاحب نصب الراية : وقيل إن ذلك من خواصه - صلى الله عليه وسلم - وفيه نظر ، فقد رئي محرما ، وعلى رأسه مثل الرب من الغالية . وقال ابن عباس مسلم بن صبح : رأيت ابن الزبير ، وهو محرم ، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو كان لرجل أعد منه رأس مال . انتهى منه .
فهذا الحديث ، وهذه الآثار : حجة من قال : بالتطيب قبل الإحرام ، ولو كان الطيب يبقى بعد الإحرام .
وإذا عرفت أقوال أهل العلم وحججهم في هذه المسألة فهذه مناقشة أقوالهم : اعلم أن المالكية ، ومن وافقهم أجابوا عن حديث عائشة المذكور بأجوبة :
منها : أنهم حملوه على أنه تطيب ، ثم اغتسل بعده ، فذهب الطيب قبل الإحرام ، [ ص: 87 ] قالوا : ويؤيد هذا قولها في الرواية الأخرى : " " فظاهره أنه إنما تطيب لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده ، لا سيما وقد نقل أنه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى ، ولا يبقى مع ذلك طيب ، ويكون قولها : ثم أصبح ينضح طيبا : أي قبل غسله ، وقد سبق في رواية طيبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه ثم طاف على نسائه ، ثم أصبح محرما لمسلم : أن ذلك الطيب كان ذريرة وهي مما يذهبه الغسل ، قالوا : وقولها : ، المراد به : أثره لا جرمه قاله : كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم . وقال القاضي عياض ابن العربي : ليس في شيء من طرق حديث عائشة : أن عين الطيب بقيت .
ومنها : أن ذلك التطيب خاص به - صلى الله عليه وسلم - .
ومنها : أن الدوام على الطيب بعد الإحرام كابتداء الطيب في الإحرام ، بجامع الاستمتاع بريح الطيب في حال الإحرام ، في كل منهما قالوا : ومما يؤيد أن ذلك التطيب خاص به - صلى الله عليه وسلم - : أنه لو كان مشروعا لعامة الناس لما أنكره عمر ، وعثمان ، مع علمهم بالمناسك وجلالتهم في الصحابة . ولم ينكر عليهم أحد إلا ما أنكرت وابن عمر عائشة على ولما أنكره ابن عمر ، الزهري وعطاء مع علمهما بالمناسك .
ومنها : أن حديث عائشة المذكور يقتضي إباحة الطيب ، لمن أراد الإحرام ، وحديث : يقتضي منع ذلك ، والمقرر في الأصول : أن يعلى بن أمية ; لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام . الدال على المنع مقدم على الدال على الإباحة
ومنها : أن حديث يعلى من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظه الصريح في الأمر بإزالة الطيب ، وإنقائه من البدن ، وظاهره العموم لما قدمنا أن خطاب الواحد يعم حكمه الجميع لاستواء الجميع في التكليف ، والعموم القولي لا يعارضه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه مخصص له كما تقرر في الأصول ، كما أوضحناه سابقا ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " :
في حقه القول بفعل خصا إن يك فيه القول ليس نصا
فهذا هو حاصل ما أجاب به القائلون بمنع التطيب ، عند إرادة الإحرام أو كراهته . وأجاب القائلون بمنع ذلك كله قالوا : دعوى أن التطيب للنساء لا الإحرام ، يرده صريح الحديث في قولها : طيبته لا لإحرامه ، يرده صريح الحديث في قولها : طيبته لإحرامه ، وادعاء أن اللام للتوقيت ، خلاف الظاهر قالوا : وادعاء أن الطيب زال بالغسل قبل الإحرام ترده الروايات الصريحة عن عائشة : أنها كأنها تنظر إلى وبيص الطيب في مفرقه - صلى الله عليه وسلم - وهو محرم ; لأن الوبيص في اللغة : البريق ، واللمعان ، وهو [ ص: 88 ] وصف وجودي ، والوصف الوجودي : لا يوصف به المعدوم ، وإنما يوصف به الموجود . فدل على أن الطيب الموصوف بالوبيص موجود بعينه ، وهو يرد قول ابن العربي أنه لم يرد في شيء من طرق حديث عائشة أن عين الطيب بقيت .
ويؤيده ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا الحسين بن الجنيد الدامغاني : ثنا أبو أسامة ، قال : أخبرني عمر بن سويد الثقفي ، قال : حدثتني : أن عائشة بنت طلحة - رضي الله عنها - حدثتها قالت : " عائشة أم المؤمنين " انتهى منه والسك بضم السين ، وتشديد الكاف : نوع من الطيب ، يضاف إلى غيره من الطيب ، ويستعمل . كنا نخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة . فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام ، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها ، فيراه النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينهانا
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " في حديث أبي داود هذا : سكت عنه أبو داود ، والمنذري ، وإسناده رواته ثقات إلا الحسين بن الجنيد شيخ أبي داود ، وقد قال : لا بأس به ، وقال النسائي في الثقات : مستقيم الأمر فيما يروي ، ا هـ . وقال فيه ابن حبان ابن حجر في " التقريب " : لا بأس به ، وقال فيه : في " تهذيب التهذيب " : قال : لا بأس به . وذكره النسائي في " الثقات " . وقال : من ابن حبان أهل سمنان : مستقيم الأمر فيما يروي .
قلت : وقال أحمد بن حمدان العابدي ، ثنا الحسين بن الجنيد ، وكان رجلا صالحا ، وقال : ثقة انتهى منه . مسلمة بن القاسم
وبما ذكرنا تعلم أن حديث عائشة المذكور عند أبي داود أقل درجاته أنه حسن ، وقال فيه النووي في " شرح المهذب " : هذا حديث حسن ، رواه أبو داود بإسناد حسن انتهى منه ، وهو حجة في جواز بقاء عين الطيب في المحرم بعد الإحرام ، إن كان استعماله للطيب ، قبل الإحرام .
قال في " القاموس " : والسك بالضم طيب ، يتخذ من الرامك مدقوقا منخولا معجونا بالماء ، ويعرك شديدا ، ويمسح بدهن الخيري لئلا يلصق بالإناء ، ويترك ليلة ثم يسحق السك ويلقمه ويعرك شديدا ويقرص ويترك يومين ، ثم يثقب بمسلة وينظم في خيط قنب ، ويترك سنة ، وكلما عتق طابت رائحته انتهى منه . وقال أيضا : والرامك كصاحب : شيء أسود يخلط بالمسك ، ويفتح انتهى منه . ولا يخفى أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما كن يضمدن به جباههن في حال كونه معجونا ، قبل أن يقرص ويجف .
[ ص: 89 ] وقال ابن منظور في " اللسان " : والسك ضرب من الطيب يركب من مسك ورامك ، وقال في " اللسان " أيضا : والرامك والرامك والكسر أعلى شيء أسود كالقار يخلط بالمسك فيجعل سكا ، قال : ابن سيده
إن لك الفضل على صحبتي والمسك قد يستصحب الرامكا
وأجابوا عن كون التطيب المذكور خاصا به - صلى الله عليه وسلم - : بأن حديث عائشة هذا نص في عدم خصوص ذلك به - صلى الله عليه وسلم - وعضدوه بالآثار المروية عن بعض الصحابة كما تقدم ، عن ، ابن عباس وابن الزبير قالوا : وإنكار عمر وعثمان لا يعارض المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ; لأن سنته أولى بالاتباع من قول كل صحابي ، مع أنهم خالفهم بعض الصحابة .
وقد ثبت في صحيح مسلم : أن عائشة أنكرت ذلك على - رضي الله عنهم - . وأجابوا عن كون حديث ابن عمر يعلى ، كالعموم القولي ، فلا يعارضه فعله - صلى الله عليه وسلم - بل يخصص به بما ذكرناه آنفا من الأدلة على أن ذلك الفعل الذي هو التطيب قبل الإحرام ، ليس خاصا به كما دل عليه حديث عائشة المذكور آنفا . وقولها في الصحيح : " " . صريح في أنها شاركته في ملامسة ذلك الطيب ، كما ترى . طيبته بيدي هاتين
وأجابوا عن كون حديث يعلى : دالا على المنع ، وحديث عائشة : دالا على الجواز . والدال على المنع مقدم على الدال على الجواز ، بأن محل ذلك فيما إذا جهل المتقدم منهما . أما إذا علم المتقدم ، فإنه يجب الأخذ بالمتأخر ; لأنهم كانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث ، وقصة يعلى وقعت بالجعرانة عام ثمان بلا خلاف ، وحديث عائشة في حجة الوداع عام عشر ومن المقرر في الأصول : أن النصين إذا تعارضا وعلم المتأخر منهما فهو ناسخ للأول ، كما هو معلوم في محله . وأجابوا عن كون الدوام على الطيب كابتدائه بأنه منتقض بالنكاح ، فإن ابتداء عقده في حال الإحرام ممنوع عند الجمهور كما تقدم إيضاحه خلافا لأبي حنيفة ، مع الإجماع على جواز الدوام على نكاح ، وقد عقده قبل الإحرام ، ثم أحرم بعد عقده الزوجان ، وهو دليل على أنه ما كل دوام كالابتداء .
وقد تقرر في الأصول أن : المانع بالنسبة إلى الابتداء والدوام ينقسم إلى ثلاثة أقسام
الأول : هو المانع للدوام والابتداء معا كالرضاع ، فإن الرضاع مانع من ابتداء عقد النكاح كما أنه أيضا مانع من الدوام عليه فلو تزوج رضيعة غير محرم منه في حال العقد ، ثم أرضعتها أمه بعد العقد فإن هذا الرضاع الطارئ على عقد النكاح مانع من الدوام عليه ، [ ص: 90 ] لوجوب فسخ ذلك النكاح بذلك الرضاع الطارئ عليه ، وكالحدث فإنه مانع من ابتداء الصلاة ، مانع من الدوام عليها إذا طرأ في أثنائها .
والثاني : هو المانع للدوام فقط دون الابتداء ، كالطلاق فإنه مانع من الدوام على العقد الأول ، والاستمتاع بالزوجة بموجبه ، وليس مانعا من ابتداء عقد جديد والاستمتاع بها بموجبه .
والثالث : هو المانع من الابتداء فقط دون الدوام ، كالنكاح بالنسبة إلى الإحرام ، فإن الإحرام مانع من ابتداء العقد ، وليس مانعا من الدوام على عقد كان قبله ، وكالاستبراء ، فإنه مانع من النكاح في حال الاستبراء ، وليس مانعا من الدوام على النكاح ; لأن الزوج إذا وطئت امرأته بشبهة ، فلزمها الاستبراء بذلك فإن ذلك لا يمنع من الدوام على عقد زواجها الأول ، قالوا : ومن هذا الطيب فإن الإحرام مانع من ابتدائه ، وليس مانعا من الدوام عليه ، كالنظائر المذكورة وإلى تعريف المانع وأقسامه ، أشار في " المراقي " بقوله :
ما من وجوده يجيء العدم ولا لزوم في انعدام يعلم
بمانع يمنع للدوام والابتدا أو آخر الأقسام
أو أول فقط على نزاع كالطول الاستبراء والرضاع
هذا هو حاصل أقوال العلماء ومناقشتها .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : أظهر قولي أهل العلم عندي في هذه المسألة : أن الطيب جائز عند إرادة الإحرام ، ولو بقيت ريحه بعد الإحرام ; لحديث عائشة المتفق عليه ، ولإجماع أهل العلم على أنه آخر الأمرين ، والأخذ بآخر الأمرين أولى كما هو معلوم .
وقد علمت من الأدلة أنه ليس من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - فحديث عائشة في حجة الوداع عام عشر ، وحديث يعلى عام الفتح ، وهو عام ثمان ، فحديث عائشة بعد حديث يعلى بسنتين ، هذا ما ظهر ، والعلم عند الله تعالى .
تنبيه
أظهر قولي أهل العلم عندي أنه إن طيب ثوبه قبل الإحرام فله الدوام على لبسه كتطييب بدنه ، وأنه إن نزع عنه ذلك الثوب المطيب بعد إحرامه ، فليس له أن يعيد لبسه ، فإن لبسه صار كالذي ابتدأ الطيب في الإحرام ، فتلزمه الفدية ، وكذلك إن نقل الطيب الذي [ ص: 91 ] تلبس به قبل الإحرام ، من موضع بدنه إلى موضع آخر بعد الإحرام ، فهو ابتداء تطيب في ذلك الموضع ، الذي نقله إليه ، وكذلك إن تعمد مسه بيده أو نحاه من موضعه ، ثم رده إليه ; لأن كل تلك الصور فيها ابتداء تلبس جديد بعد الإحرام بالطيب ، وهو لا يجوز . أما إن كان قد عرق فسال الطيب من موضعه إلى موضع آخر فلا شيء عليه في ذلك ; لأنه ليس من فعله .
ولحديث عائشة عند أبي داود الذي ذكرناه قريبا . وقال بعض علماء المالكية : ولا فرق في ذلك ، بين أن يكون الطيب في بدنه ، أو ثوبه ، إلا أنه إذا نزع ثوبه لا يعود إلى لبسه ، فإن عاد فهل عليه في العود فدية ، يحتمل أن نقول : لا فدية ; لأن ما فيه قد ثبت له حكم العفو كما لو لم ينزعه . وقال أصحاب : تجب عليه الفدية ; لأنه لبس جديد وقع بثوب مطيب . انتهى من الحطاب والعلم عند الله تعالى . الشافعي