لا يخفى أن كلامنا في الهدي وأن الآية التي نحن بصددها ظاهرها أنها في الهدي ، ولما كان عمومها قد تدخل فيه الأضحية ، أردنا هنا أن نشير إلى بعض أحكام الأضحية باختصار .
اعلم أولا أن الأضحية فيها أربع لغات : أضحية بضم الهمزة ، وإضحية بكسرها ، وجمعهما أضاحي بتشديد الياء وتخفيفها ، وضحية ، وجمعها ضحايا ، وأضحاة وجمعها : أضحى كأرطاة ، وأرطى .
واعلم أنه لا خلاف في . قال بعض أهل العلم : وقد دل على مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع . مشروعية الأضحية
أما الكتاب فقوله تعالى : فصل لربك وانحر [ 108 \ 2 ] ، على ما قاله بعض أهل التفسير ، من أن المراد به : ذبح الأضحية بعد صلاة العيد ، ولا يخفى أن صلاة العيد داخلة في عموم فصل لربك ، وأن الأضحية داخلة في عموم قوله : وانحر .
وأما الإجماع : فقد أجمع جميع المسلمين على مشروعية الأضحية . وأما السنة : فقد وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة صحيحة في مشروعية الأضحية وسنذكر طرفا منها فيه كفاية إن شاء الله .
قال في صحيحه : باب أضحية النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين ويذكر سمينين . وقال البخاري : سمعت يحيى بن سعيد ، قال : كنا نسمن الأضحية أبا أمامة بن سهل بالمدينة ، وكان المسلمون يسمنون .
حدثنا ، حدثنا آدم بن أبي إياس شعبة ، حدثنا قال : سمعت عبد العزيز بن صهيب - رضي الله عنه - قال : " أنس بن مالك " ، وأنا أضحي بكبشين . كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي بكبشين
حدثنا ، حدثنا قتيبة بن سعيد عبد الوهاب عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس : " " ، وقال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انكفأ إلى كبشين أقرنين أملحين فذبحهما بيده إسماعيل وحاتم بن وردان ، عن أيوب ، عن ، عن ابن سيرين أنس تابعه وهيب عن أيوب ، وقال : حدثنا [ ص: 199 ] ، حدثنا عمرو بن خالد الليث ، عن يزيد ، عن أبي الخير ، عن : " عقبة بن عامر " ، انتهى من صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاه غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود ، فذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " ضح به أنت . وفي لفظ له من حديث البخاري أنس - رضي الله عنه - قال : " " . وفي لفظ ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين فرأيته واضعا قدمه على صفاحهما يسمي ويكبر فذبحهما بيده عن للبخاري أنس أيضا ، قال : " " . وفي لفظ له عن ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما أنس - رضي الله عنه - أيضا : " " . انتهى منه . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين ويضع رجله على صفاحهما ، ويذبحهما بيده
وقال في صحيحه : حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا قتيبة بن سعيد أبو عوانة عن قتادة ، عن أنس قال : " " . وفي لفظ له عن ضحى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده ، وسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهما أنس - رضي الله عنه - قال : " وفي لفظ ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أملحين أقرنين ، قال : ورأيته يذبحهما بيده ورأيته واضعا قدمه على صفاحهما قال : وسمى وكبر ، لمسلم عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثله ، غير أنه قال : ويقول : " بسم الله ، والله أكبر " . وقال مسلم في صحيحه أيضا : حدثنا ، حدثنا هارون بن معروف قال : قال عبد الله بن وهب حيوة : أخبرني أبو صخر عن عن يزيد بن قسيط ، عن عروة بن الزبير عائشة - رضي الله عنها - : " عائشة ، هلمي المدية ، ثم قال : " اشحذيها بحجر " ، ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه ثم قال : " باسم الله ، اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد " ، ثم ضحى به ، انتهى من صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد ، وينظر في سواد فأتى به ليضحي به ، فقال لها : " يا مسلم . والأحاديث الواردة في مشروعية الأضحية كثيرة ، معروفة .
وقد اختلف أهل العلم في حكمها ، فذهب أكثر أهل العلم : إلى أنها سنة مؤكدة في حق الموسر ، ولا تجب عليه . وقال النووي في " شرح المهذب " : وهذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء منهم ، أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب وبلال ، ، وأبو مسعود البدري ، وسعيد بن المسيب وعطاء ، وعلقمة ، والأسود ، ومالك ، وأحمد ، وأبو يوسف ، وإسحاق ، ، وأبو ثور والمزني ، وداود بن المنذر ، وقال ربيعة والليث بن سعد ، وأبو حنيفة ، : هي واجبة على الموسر إلا الحاج والأوزاعي بمنى . وقال محمد بن الحسن : هي واجبة على المقيم بالأمصار . والمشهور عن أبي حنيفة : أنه إنما يوجبها على مقيم يملك نصابا . انتهى كلام النووي .
[ ص: 200 ] وقال النووي في " شرح مسلم " : واختلف العلماء في وجوب الأضحية ، على الموسر ، فقال جمهورهم : هي سنة في حقه إن تركها بلا عذر ، لم يأثم ، ولم يلزمه القضاء ، وممن قال بهذا : ، أبو بكر الصديق إلى آخر كلامه قريبا مما ذكرنا عنه في " شرح المهذب " . وعمر بن الخطاب
وقال في " المغني " : أكثر أهل العلم على أنها سنة مؤكدة غير واجبة ، روي ذلك عن ابن قدامة أبي بكر ، وعمر ، وبلال ، - رضي الله عنهم - . وبه قال وأبي مسعود البدري ، سويد بن غفلة ، وسعيد بن المسيب وعلقمة ، والأسود ، وعطاء ، ، والشافعي وإسحاق ، ، وأبو ثور وابن المنذر . وقال ربيعة ، ومالك ، والنووي ، ، والأوزاعي والليث ، وأبو حنيفة : هي واجبة ونقل في " المغني " ، عن ابن قدامة مالك وجوب الأضحية خلاف مذهبه ، ومذهبه هو ما نقل عنه النووي : من أنها سنة ، ولكنها عنده لا تسن على خصوص الحاج بمنى ; لأن ما يذبحه هدي لا أضحية . وقد قدمنا أن آية " الحج " لا تخلو من دلالة على ما ذهب إليه مالك ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى .
فإذا رأيت أقوال أهل العلم في ، فهذه أدلة أقوالهم ومناقشتها ، وما يظهر رجحانه بالدليل منها ، على سبيل الاختصار . حكم الأضحية
أما من قال : إنها واجبة فقد استدل بأدلة منها : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفعلها ، والله يقول : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة الآية [ 33 \ 21 ] .
وقد قدمنا قول من قال من أهل الأصول إن يحمل على الوجوب . وأوضحنا أدلة ذلك . وذكرنا أن صاحب " مراقي السعود " ذكره بقوله في كتاب السنة في مبحث أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - : فعله صلى الله عليه وسلم الذي لم تعلم جهته من وجوب أو غيره
وكل ما الصفة فيه تجهل فللوجوب في الأصح يجعل
وذكرنا مناقشة الأقوال فيه في الحج ، وغيره من سور القرآن .ومن أدلتهم على وجوب الأضحية ما رواه في صحيحه : حدثنا البخاري آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا : سمعت الأسود بن قيس قال : جندب بن سفيان البجلي " اهـ . قالوا قوله : " فليعد " ، وقوله : " فليذبح " كلاهما صيغة أمر . شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم النحر فقال : " من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى ، ومن لم يذبح فليذبح
وقد قدمنا أن الصحيح عند أهل الأصول أن ، وبينا أدلة ذلك من الكتاب والسنة ، ورجحناه بالأدلة الكثيرة الواضحة كقوله تعالى : الأمر المتجرد عن القرائن ، يدل على [ ص: 201 ] الوجوب فليحذر الذين يخالفون عن أمره الآية [ 24 \ 63 ] . وقوله : أفعصيت أمري [ 20 \ 93 ] ، فسمى مخالفة الأمر معصية ، وقوله : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة الآية [ 33 \ 36 ] ، فجعل أمره وأمر رسوله مانعا من الاختيار ، موجبا للامتثال ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : " " ، الحديث إلى آخر ما قدمنا ، وحديث إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم الذي ذكرناه عن جندب بن سفيان أخرجه أيضا البخاري مسلم في صحيحه بلفظ : " " ، وصيغة الأمر بالذبح في حديثه واضحة ، كما بينا دلالتها على الوجوب آنفا . من كان ذبح أضحيته قبل أن يصلي أو نصلي ، فليذبح مكانها أخرى ومن كان لم يذبح فليذبح باسم الله
ومن أدلتهم على وجوب الأضحية : ما رواه أبو داود في سننه ، حدثنا مسدد ، ثنا يزيد ، ( ح ) وثنا حميد بن مسعدة ، ثنا بشر ، عن عبد الله بن عون ، عن عامر أبي رملة قال : أخبرنا مخنف بن سليم قال : بعرفات قال : " يا أيها الناس ، إن على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة أتدرون ما العتيرة ؟ هي : التي يقول عنها الناس : الرجبية " انتهى منه . ونحن وقوف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وقال النووي في " شرح المهذب " : في هذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهم ، قال والنسائي الترمذي : حديث حسن . قال الخطابي : هذا الحديث ضعيف المخرج ; لأن أبا رملة مجهول . وهو كما قال الخطابي مجهول . قال فيه ابن حجر في " التقريب " : عامر أبو رملة شيخ لابن عون لا يعرف انتهى منه . وقال فيه الذهبي في " الميزان " : عامر أبو رملة شيخ لابن عون فيه جهالة له عن مخنف بن سليم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " " . قال يا أيها الناس ، إن على كل بيت في الإسلام أضحية ، وعتيرة عبد الحق : إسناده ضعيف ، وصدقه لجهالة ابن القطان عامر ، رواه عنه ابن عون انتهى منه .
وبه تعلم أن قول ابن حجر في " الفتح " ، في حديث مخنف بن سليم أخرجه أحمد والأربعة بسند قوي ، خلاف التحقيق كما ترى . وقد قال أبو داود بعد أن ساق الحديث بسنده ومتنه كما ذكرناه عنه آنفا . قال أبو داود : العتيرة : منسوخة هذا خبر منسوخ انتهى منه . ولكنه لم يبين الناسخ ، ولا دليل النسخ . وعلى كل حال فالحديث ضعيف لا يحتج به ; لأن أبا رملة مجهول كما رأيت من قال ذلك .
ومن أدلتهم على وجوبها : ما رواه الإمام أحمد وصححه وابن ماجه الحاكم عن أبي [ ص: 202 ] هريرة - رضي الله عنه - ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " . قال من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ابن حجر في بلوغ المرام : في هذا الحديث رواه أحمد ، وصححه وابن ماجه الحاكم ورجح الأئمة غيره وقفه ، وقال ابن حجر في " فتح الباري " : وأقرب ما يتمسك به لوجوب الأضحية ، حديث ، رفعه : " أبي هريرة " ، أخرجه من وجد سعة فلم يضح ، فلا يقربن مصلانا ، ابن ماجه وأحمد ، ورجاله ثقات ، لكن اختلف في رفعه ووقفه والموقوف أشبه بالصواب . قاله وغيره ، ومع ذلك فليس صريحا في الإيجاب انتهى منه . الطحاوي
وذكر النووي في شرح المهذب ، من أدلة من أوجبها : ما جاء عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ابن عباس " ، ثم قال : رواه ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة يوم عيد البيهقي . وقال : تفرد به محمد بن ربيعة ، عن إبراهيم بن يزيد الخوزي وليسا بقويين ، ثم قال : وعن عائذ الله المجاشعي ، عن أبي داود نفيع ، عن أنهم زيد بن أرقم إبراهيم " ( صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم ) ، قالوا : ما لنا فيها من الأجر ؟ قال : " بل كل قطرة حسنة " ، رواه قالوا : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما هذه الأضاحي ؟ قال : " سنة أبيكم ، ابن ماجه والبيهقي . قال البيهقي : قال : البخاري عائذ الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح حديثه ، وأبو داود هذا ضعيف ، ثم قال النووي : وعن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " علي بن أبي طالب " ، رواه نسخ الأضحى كل ذبح ، وصوم رمضان كل صوم ، والغسل من الجنابة كل غسل ، والزكاة كل صدقة ، الدارقطني والبيهقي قال : وهو ضعيف ، واتفق الحفاظ على ضعفه ، وعن عائشة قالت : " ، رواه قلت : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أستدين وأضحي ؟ قال : " نعم ، فإنه دين مقضي الدارقطني والبيهقي ، وضعفاه قالا : وهو مرسل اهـ كلام النووي . وما ذكره من تضعيف الأحاديث المذكورة : هو الصواب ، وقد وردت أحاديث غير ما ذكرنا في الترغيب في الأضحية ، وفيها أحاديث متعددة ليست بصحيحة . وهذا الذي ذكرنا هو عمدة من قال : بوجوب الأضحية ، واستدلال بعض الحنفية على وجوبها بالإضافة في قولهم : يوم الأضحى قائلا : إن الإضافة إلى الوقت لا تحقق إلا إذا كانت موجودة فيه بلا شك ، ولا تكون موجودة فيه بيقين ، إلا إذا كانت واجبة لا يخفى سقوطه ; لأن الإضافة تقع بأدنى ملابسة ، فلا تقتضي الوجوب على التحقيق ، كما لا يخفى .
وأقوى أدلة من قال بالوجوب : هو ما قدمنا في الصحيحين من حديث جندب بن [ ص: 203 ] سفيان البجلي ، من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر من ذبح قبل الصلاة بالإعادة ، وأمر من لم يذبح بالذبح . وقد قدمنا دلالة الأمر على الوجوب والحديث المختلف في وقفه ورفعه الذي قدمنا ; لأن قوله فيه : " فلا يقربن مصلانا " ، يفهم منه أن ترك الأضحية مخالفة غير هينة ، لمنع صاحبها من قرب المصلى وهو يدل على الوجوب . والفرق بين المسافر والمقيم عند أبي حنيفة لا أعلم له مستندا من كتاب ولا سنة ، وبعض الحنفية يوجهه بأن أداءها له أسباب تشق على المسافر ، وهذا وحده لا يكفي دليلا ; لأنه من المعلوم أن كل واجب عجز عنه المكلف ، يسقط عنه ; لقوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] .
وأما الذين قالوا : بأن الأضحية سنة مؤكدة ، وليست بواجبة ، فاستدلوا بأدلة منها : ما رواه مسلم في صحيحه : حدثنا ابن أبي عمر المكي ، حدثنا سفيان ، عن ، سمع عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أم سلمة " ، قيل إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره وبشره شيئا لسفيان : فإن بعضهم لا يرفعه . قال : لكني أرفعه اهـ وفي لفظ عنها ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند مسلم : " فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي " . وفي لفظ له عنها مرفوعا " إذا أراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره " اهـ .
كل هذه الألفاظ في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث زوجه رضي الله عنها - ، ووجه الاستدلال بها ، على عدم الوجوب أن ظاهر الرواية أن الأضحية موكولة إلى إرادة المضحي ، ولو كانت واجبة لما كانت كذلك . أم المؤمنين - أم سلمة
قال النووي في " شرح المهذب " : بعد أن ذكر بعض روايات حديث المذكور ما نصه : قال أم سلمة : هذا دليل أن التضحية ليست بواجبة ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - ، " وأراد " فجعله مفوضا إلى إرادته ، ولو كانت واجبة لقال : فلا يمس من شعره ، حتى يضحي انتهى منه . وقال الشافعي النووي في " شرح المهذب " أيضا : واستدل أصحابنا ، يعني لعدم الوجوب بحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ابن عباس " ، رواه هن علي فرائض وهن لكم تطوع : النحر ، والوتر ، وركعتا الضحى البيهقي بإسناد ضعيف . ورواه في موضع آخر وصرح بضعفه وللحديث المذكور طرق ، ولا يخلو شيء منها من الضعف ولم يذكرها النووي . ثم قال النووي : وصح عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - : أنهما كانا لا يضحيان ، مخافة أن يعتقد الناس وجوبها اهـ كلام النووي . وقال ابن حجر في " فتح الباري " : قال ابن [ ص: 204 ] حزم : لا يصح عن أحد من الصحابة أنها واجبة ، وصح أنها غير واجبة عن الجمهور ، ولا خلاف في كونها من شرائع الدين . وقد استدل لعدم وجوبها : المجد في " المنتقى " بحديثين ، ولا تظهر دلالتها على ذلك عندي كل الظهور . قال في " المنتقى " : باب ما احتج به في عدم وجوبها ، بتضحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أمته : عن جابر قال : " . وعن صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيد الأضحى ، فلما انصرف " أتى بكبش فذبحه فقال : " باسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي علي بن الحسين ، عن أبي رافع : " " ، ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ويقول : " هذا عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب للناس أوتي بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ، ثم يقول : " اللهم هذا عني وعن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ محمد وآل محمد " فيطعمهما جميعا المساكين ، ويأكل هو وأهله منهما " فمكثنا سنين ليس لرجل من بني هاشم يضحي قد كفاه الله المؤنة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والغرم ، رواه أحمد ، اهـ من " المنتقى " .
وقال شارحه في " نيل الأوطار " : ووجه دلالة الحديثين ، وما في معناهما على عدم الوجوب أن تضحيته - صلى الله عليه وسلم - عن أمته وعن أهله تجزئ كل من لم يضح ، سواء كان متمكنا من الأضحية أو غير متمكن ، ثم تعقبه بقوله : ويمكن أن يجاب عن ذلك ، بأن حديث : " " ، يدل على وجوبها على كل أهل بيت يجدونها ، فيكون قرينة على أن تضحية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن غير الواجدين من أمته ولو سلم الظهور المدعى ، فلا دلالة له على عدم الوجوب ; لأن محل النزاع من لم يضح عن نفسه ، ولا ضحى عنه غيره ، فلا يكون عدم وجوبها على من كان في عصره - صلى الله عليه وسلم - من الأمة مستلزما ، لعدم وجوبها على من كان في غير عصره - صلى الله عليه وسلم - منهم انتهى من " نيل الأوطار " . وقد رأيت أدلة القائلين بالوجوب ، والقائلين بالسنة . والواقع في نظرنا أنه ليس في شيء من أدلة الطرفين ، دليل جازم سالم من المعارض على الوجوب ، ولا على عدمه ; لأن صيغة الأمر بالذبح في الحديث الصحيح وبإعادة من ذبح قبل الصلاة ، وإن كان يفهم منه الوجوب على أحد الأقوال ، وهو المشهور في صيغة الأمر . فحديث على كل أهل بيت أضحية الذي ظاهره : تفويض ذلك إلى إرادة المضحي ، وهو في صحيح أم سلمة مسلم يمكن أن يكون قرينة صارفة عن الوجوب في صيغة الأمر المذكور ، وكلا الدليلين لا يخلو من احتمال ، وحديث : " " ، رجح أكثر الأئمة وقفه ، وقد قدمنا أن من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا ابن حجر قال : إنه ليس صريحا [ ص: 205 ] في الإيجاب وأجاب القرطبي في المفهم عن دلالة صيغة الأمر في قوله : فليعد ، وقوله : فليذبح وقال : لا حجة في شيء من ذلك ، على الوجوب وإنما المقصود بيان كيفية مشروعية الأضحية ، لمن أراد أن يفعلها أو من أوقعها على غير الوجه المشروع خطأ أو جهلا ، فبين له وجه تدارك ما فرط منه انتهى محل الغرض منه بواسطة نقل ابن حجر في " الفتح " .
قال مقيده - عفا الله عنه وغفر له - : الذي يظهر لي في مثل هذا الذي لم تتضح فيه دلالة النصوص على شيء معين إيضاحا بينا أنه يتأكد على الإنسان الخروج من الخلاف فيه ، فلا يترك الأضحية مع قدرته عليها ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " " ، فلا ينبغي تركها لقادر عليها ; لأن أداءها هو الذي يتيقن به براءة ذمته ، والعلم عند الله تعالى . دع ما يريبك إلى ما لا يريبك