المسألة الخامسة : اعلم أن وجب جلده مائة جلدة كما هو نص الآية الكريمة ، ولا خلاف فيه ، ولكن العلماء اختلفوا البكر من الرجال والنساء ، إذا زنا ؟ فذهب جمهور أهل العلم إلى أن البكر يغرب سنة مع الجلد . قال هل يغرب سنة مع جلده مائة أو لا يغرب في " المغني " : وهو قول جمهور أهل العلم ، روي ذلك عن الخلفاء الراشدين ، وبه قال ابن قدامة أبي ، وابن وابن مسعود عمر - رضي الله عنهم - ، وإليه ذهب عطاء ، ، وطاوس ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والشافعي وإسحاق ، ، وقال وأبو ثور مالك : يغرب الرجل دون المرأة ، وقال والأوزاعي أبو حنيفة ومحمد : لا يجب التغريب على ذكر ولا أنثى ، وقال النووي في شرح مسلم : قال والجماهير : ينفى سنة رجلا كان أو امرأة . وقال الشافعي الحسن : لا يجب النفي ، وقال مالك : لا نفي على النساء ، وروي مثله عن والأوزاعي علي - رضي الله عنه - إلى أن قال : وأما ففيهما ثلاثة أقوال العبد والأمة : للشافعي
[ ص: 409 ] أحدها : يغرب كل واحد منهما سنة لظاهر الحديث ، وبهذا قال ، سفيان الثوري ، وأبو ثور وداود ، . وابن جرير
والثاني : يغرب نصف سنة ; لقوله تعالى : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، وهذا أصح الأقوال عند أصحابنا ، وهذه الآية مخصصة لعموم الحديث ، والصحيح عند الأصوليين : جواز ; لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب فتخصيص السنة به أولى . تخصيص السنة بالكتاب
والثالث : لا يغرب المملوك أصلا ، وبه قال ، الحسن البصري وحماد ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الأمة إذا زنت " : فليجلدها " ، ولم يذكر النفي ، ولأن نفيه يضر سيده مع أنه لا جناية من سيده ، وأجاب أصحاب عن حديث الأمة إذا زنت أنه ليس فيه تعرض للنفي ، والآية ظاهرة في وجوب النفي ، فوجب العمل بها ، وحمل الحديث على موافقتها ، والله أعلم ، اهـ كلام الشافعي النووي ، وقوله : إن الآية ظاهرة في وجوب النفي ليس بظاهر ، فانظره .
وإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه المسألة ، وأن الأئمة الثلاثة : مالكا ، ، والشافعي وأحمد ، متفقون على ، وإن وقع بينهم خلاف في تغريب الزاني البكر الحر الذكر والعبيد ، وعلمت أن تغريب الإناث ، ومن ذكرنا معه يقولون : بأنه لا يجب التغريب على الزاني مطلقا ذكرا كان أو أنثى ، حرا أو عبدا ، فهذه تفاصيل أدلتهم . أبا حنيفة
أما الذين قالوا : يغرب البكر الزاني سنة ، فاحتجوا بأن ذلك ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثبوتا لا مطعن فيه ، ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما وباقي الجماعة في حديث العسيف الذي زنى بامرأة الرجل الذي كان أجيرا عنده ، وفيه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " : " الحديث ، وفيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - برواية صحابيين جليلين أنه أقسم ليقضين بينهما بكتاب الله ، ثم صرح بأن من ذلك القضاء بكتاب الله جلد ذلك الزاني البكر مائة وتغريبه عاما ، وهذا أصح نص وأصرحه في محل النزاع . ومن ذلك ما أخرجه والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : الوليدة والغنم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام مسلم في صحيحه وغيره وهو حديث - رضي الله عنه - الذي قدمناه ، وفيه " : عبادة بن الصامت " ، وهو أيضا نص صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صريح في محل النزاع ، واحتج الحنفية ومن وافقهم من الكوفيين على عدم التغريب بأدلة : البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة
[ ص: 410 ] منها : أن التغريب سنة زيادة على قوله تعالى : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ، والمقرر في أصول الحنفية هو أن الزيادة على النص نسخ له ، وإذا كانت زيادة التغريب على الجلد في الآية تعتبر نسخا للآية فهم يقولون : إن الآية متواترة ، وأحاديث التغريب أخبار آحاد ، والمتواتر عندهم لا ينسخ بالآحاد ، وقد قدمنا في مواضع من هذا الكتاب المبارك أن كلا الأمرين ليس بمسلم ، أما الأول منهما وهو أن كل زيادة على النص ، فهي ناسخة له ليس بصحيح ; لأن الزيادة على النص لا تكون ناسخة له على التحقيق ، إلا إن كانت مثبتة شيئا قد نفاه النص أو نافية شيئا أثبته النص ، أما إذا كانت زيادة شيء سكت عنه النص السابق ، ولم يتعرض لنفيه ، ولا لإثباته فالزيادة حينئذ إنما هي رافعة للبراءة الأصلية المعروفة في الأصول بالإباحة العقلية ، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي ، حتى يرد دليل ناقل عنه ، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخ ، وإنما النسخ رفع حكم شرعي كان ثابتا بدليل شرعي .
وقد أوضحنا هذا المبحث في سورة " الأنعام " ، في الكلام على قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا [ 6 \ 145 ] .
وفي سورة " الحج " في مبحث اشتراط الطهارة للطواف في كلامنا الطويل على آيات " الحج " وغير ذلك من مواضع هذا الكتاب المبارك .
وأما الأمر الثاني : وهو أن المتواتر لا ينسخ بأخبار الآحاد ; فقد قدمنا في سورة " الأنعام " في الكلام على آية " الأنعام " المذكورة آنفا ، أنه غلط فيه جمهور الأصوليين غلطا لا شك فيه ، وأن التحقيق هو جواز ; إذا ثبت تأخرها عنه ، ولا منافاة بينهما أصلا ، حتى يرجح المتواتر على الآحاد ، لأنه لا تناقض مع اختلاف زمن الدليلين ; لأن كلا منهما حق في وقته ، فلو قالت لك جماعة من العدول : إن أخاك المسافر لم يصل بيته إلى الآن ، ثم بعد ذلك بقليل من الزمن أخبرك إنسان واحد أن أخاك وصل بيته ، فإن خبر هذا الإنسان الواحد أحق بالتصديق من خبر جماعة العدول المذكورة ; لأن أخاك وقت كونهم في بيته لم يقدم ، وبعد ذهابهم بزمن قليل قدم أخوك فأخبرك ذلك الإنسان بقدومه وهو صادق ، وخبره لم يعارض خبر الجماعة الآخرين لاختلاف زمنهما كما أوضحناه في المحل المذكور ; فالمتواتر في وقته قطعي ، ولكن استمرار حكمه إلى الأبد ليس بقطعي ، [ ص: 411 ] فنسخه بالآحاد إنما نفى استمرار حكمه ، وقد عرفت أنه ليس بقطعي ، كما ترى . نسخ المتواتر بالآحاد
ومن أدلتهم على عدم التغريب : حديث عند سهل بن سعد الساعدي أبي داود ، وقد قدمناه : ، وما رواه أن رجلا أقر عنده - صلى الله عليه وسلم - أنه زنى بامرأة سماها فأنكرت أن تكون زنت ، فجلده الحد ، وتركها أبو داود أيضا عن : ابن عباس بكر بن ليث أقر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه زنى بامرأة أربع مرات ، وكان بكرا فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة ، وسأله - صلى الله عليه وسلم - البينة على المرأة إذ كذبته ، فلم يأت بها ; فجلده حد الفرية ثمانين جلدة ، قالوا : ولو كان التغريب واجبا لما أخل به النبي - صلى الله عليه وسلم - . أن رجلا من
ومن أدلتهم أيضا : الحديث الصحيح " " الحديث ، وهو متفق عليه ، ولم يذكر فيه التغريب مع الجلد ، فدل ذلك على أن التغريب منسوخ ، وهذا الاستدلال لا ينهض لمعارضة النصوص الصحيحة الصريحة التي فيها إقسامه - صلى الله عليه وسلم - أن الجمع بين جلد البكر ، ونفيه سنة قضاء منه - صلى الله عليه وسلم - بكتاب الله . إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها
وإيضاح ذلك : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله ، وهذا النص الصحيح بالغ من الصراحة في محل النزاع ، ما لم يبلغه شيء آخر يعارض به .
وقال الشوكاني في " نيل الأوطار " : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين ، وقد أقسم أن الجمع بين الجلد والتغريب قضاء بكتاب الله ، قال : وخطب بذلك عمر - رضي الله عنه - على رءوس المنابر ، وعمل به الخلفاء الراشدون ، ولم ينكره أحد فكان إجماعا ، اهـ منه .
وذكر مرجحات أخرى متعددة لوجوب التغريب .
والحاصل : أن حديث أبي داود الذي استدلوا به من حديث سهل بن سعد ليس فيه ذكر التغريب ، ولا التصريح بعدمه ، ولم يعلم هل هو قبل حديث الإقسام ، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله أو بعده ؟ فعلى أن المتأخر الإقسام المذكور فالأمر واضح ، وعلى تقدير أن الإقسام هو المتقدم ، فذلك التصريح ، بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله مع الإقسام على ذلك لا يصح رفعه بمحتمل ; ولو تكررت الروايات به تكررا كثيرا ، وعلى أنه لا يعرف المتقدم منهما كما هو الحق ، فالحديث المتفق عليه عن صحابيين جليلين هما : وابن عباس ، أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني الذي فيه الإقسام بأن الجمع بينهما قضاء بكتاب الله ، لا شك في تقديمه على حديث أبي داود الذي هو دونه في السند والمتن . أما [ ص: 412 ] كونه في السند فظاهر ، وأما كونه في المتن فلأن حديث أبي داود ليس فيه التصريح بنفي التغريب ، والصريح مقدم على غير الصريح كما هو معروف في الأصول ، وبه تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه جمع الجلد والتغريب .
وأما الاستدلال بحديث الأمة فليس بوجيه لاختلاف الأمة والأحرار في أحكام الحد ، فهي تجلد خمسين ، ولو محصنة ، ولا ترجم ، والأحرار بخلاف ذلك ، فأحكام الأحرار والعبيد في الحدود قد تختلف .
وقد بينت آية " النساء " اختلاف الحرة والأمة في حكم حد الزنا من جهتين :
إحداهما : أنها صرحت بأنها إن كانت محصنة ، فعليها الجلد لا الرجم .
والثانية : أن عليها نصفه ، وذلك في قوله : فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ 4 \ 25 ] ، فتأمل قوله : فإذا أحصن ، وقوله : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، يظهر لك ما ذكرنا .
ومما ذكرنا تعلم أن الأصح الذي لا ينبغي العدول عنه هو وجوب تغريب البكر سنة مع جلده مائة لصراحة الأدلة الصحيحة في ذلك ، والعلم عند الله تعالى .