وقوله تعالى : لو أنزلنا يدل على أنه لم ينزله ، وأنه ذكر على سبيل المثال ؛ ليتفكر الناس في أمره كما قال تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى الآية [ 13 \ 31 ] .
قال الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عندها : جواب ( لو ) محذوف .
قال بعض العلماء : تقديره لكان هذا القرآن . . . إلخ . ا هـ .
وقال ابن كثير : يقول تعالى معظما لأمر القرآن ، ومبينا علو قدره ، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد الأكيد : لو أنزلنا هذا القرآن الآية [ 59 \ 21 ] .
فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل .
فكيف يليق بكم أيها البشر ألا تلين قلوبكم ، وتخشع ، وتتصدع من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وقد تدبرتم كتابه ، ولهذا قال تعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] .
وقد وجد لبعض الناس شيئا من ذلك عند سماع آيات من القرآن ، من ذلك ما رواه ابن كثير في سورة " الطور " عن عمر - رضي الله عنه - قال : خرج عمر - رضي الله عنه - يعس بالمدينة ذات ليلة فمر بدار رجل من المسلمين فوافقه قائما يصلي فوقف يستمع قراءته فقرأ : والطور [ 52 \ 1 ] حتى بلغ : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع [ 52 \ 7 - 8 ] قال : قسم ورب الكعبة حق ، فنزل عن حماره واستند إلى حائط فمكث مليا ، ثم رجع إلى منزله ، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه .
[ ص: 63 ] وذكر القرطبي : قدمت جبير بن مطعم المدينة ؛ لأسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أسارى بدر فوافيته يقرأ في صلاة المغرب والطور إلى قوله تعالى : إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع ، فكأنما صدع قلبي فأسلمت خوفا من نزول العذاب ، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب . قال
وذكر في خبر أنه سمعها فجعل يضطرب حتى غشي عليه . مالك بن دينار
وقد نقل السيوطي في الإتقان خبر بتمامه في فصل إعجاز القرآن . مالك بن دينار
وقال : قد مات جماعة عند سماع آيات منه أفردوا بالتصنيف ، وقد ينشأ هنا سؤال كيف يكون هذا تأثير القرآن لو أنزل على الجبال ولم تتأثر به القلوب ؟ وقد أجاب القرآن عن ذلك في قوله تعالى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة [ 2 \ 74 ] ، وكذلك أصموا آذانهم عن سماعه ، وغلفوا قلوبهم بالكفر عن فهمه ، وأوصدوها بأقفالها فقالوا : قلوبنا غلف [ 2 \ 88 ] ، وكذلك قوله تعالى : ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا [ 18 \ 57 ] أي : بسبب الإعراض وعدم التدبر والنسيان ، ولذا قال تعالى عنهم : أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 47 \ 24 ] فهذه كما قال الشاعر : أسباب عدم تأثر الكفار بالقرآن
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
ويفهم منه بمفهوم المخالفة أن المؤمنين تخشع قلوبهم ، وتلين جلودهم ، كما نص تعالى عليه بقوله تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء [ 39 \ 23 ] ، وقوله تعالى : لو أنزلنا يدل على أنه لم ينزله على جبل ولم يتصدع منه .
وقد جاء في القرآن ما يدل عليه لو أنزله من ذلك قوله تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها [ 33 \ 72 ] .
وهذا نص صريح لأن الجبال أشفقت من حمل الأمانة وهي أمانة التكليف بمقتضى [ ص: 64 ] خطاب الله تعالى إياها .
فإذا كانت الجبال أشفقت لمجرد العرض عليها فكيف بها لو أنزل عليها وكلفت به .
ومنها : أن الله تعالى لما تجلى للجبل جعله دكا ، وخر موسى صعقا ، والقرآن كلام الله وصفة من صفاته ، فهو شاهد وإن لم يكن نصا .
ومنها النص على أن بعض الجبال التي هي الحجارة ليهبط من خشية الله لقوله تعالى : وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله [ 2 \ 74 ] .
وقد جاء في السنة إثبات ما يشبه ذلك في جبل أحد ، حينما صعد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان - رضي الله عنهما - فارتجف بهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : " " . اثبت أحد ؛ فإنما عليك نبي ، وصديق ، وشهيد
وسواء كان ارتجافه إشفاقا أو إجلالا فدل هذا كله على أنه تعالى وإن لم ينزل القرآن على جبل أنه لو أنزله عليه لرأيته كما قال تعالى : خاشعا متصدعا من خشية الله .
وبهذا أيضا يتضح أن جواب ( لو ) في قوله تعالى : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال [ 13 \ 31 ] لكان هذا القرآن أرجح من تقديرهم لكفرتم بالرحمن ؛ لأن موضوع تسيير الجبال وخشوعها وتصديعها واحد ، وهو الذي قدمه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - هناك ، والعلم عند الله تعالى .