[ ص: 112 ] فسرت التجارة بقوله تعالى : تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون [ 61 \ 11 ] .
التجارة : هي التصرف في رأس المال طلبا للربح كما قال تعالى : إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم [ 2 \ 282 ] وقال تعالى : وتجارة تخشون كسادها [ 9 \ 24 ] .
والتجارة هنا فسرت بالإيمان بالله ورسوله ، وبذل المال والنفس في سبيل الله ، فما هي المعارضة الموجودة في تلك التجارة الهامة ، بينها تعالى في قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [ 9 \ 111 ] ، فهنا مبايعة ، وهنا بشرى وهنا فوز عظيم .
وكذلك في هذه الآية : يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب [ 61 \ 12 - 13 ] .
وقد دل القرآن على أنه من فاتته هذه الصفقة الرابحة فهو لا محالة خاسر ، كما في قوله تعالى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين [ 2 \ 16 ] .
حقيقة هذه التجارة أن رأس مال الإنسان حياته ومنتهاه مماته .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : " " والعرب تعرف هذا البيع في المبادلة كما قال الشاعر : كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
وقول الآخر :
بدلت بالجمة رأسا أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا كما
اشبرى المسلم إذ تنصرا
تنبيه
[ ص: 113 ] في هذه الآية الكريمة في قوله تعالى : تقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم .
وفي آية : إن الله اشترى من المؤمنين ، قدم النفس عن المال فقال : اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ، وفي ذلك سر لطيف .
أما في آية " الصف " فإن المقام مقام تفسير وبيان لمعنى التجارة الرابحة بالجهاد في سبيل الله .
وحقيقة الجهاد بذل الجهد والطاقة ، والمال هو عصب الحرب وهو مدد الجيش ، وهو أهم من الجهاد بالسلاح ، فبالمال يشترى السلاح ، وقد تستأجر الرجال كما في الجيوش الحديثة من الفرق الأجنبية ، وبالمال يجهز الجيش ، ولذا لما جاء الإذن بالجهاد أعذر الله المرضى والضعفاء ، وأعذر معهم الفقراء الذين لا يستطيعون تجهيز أنفسهم ، وأعذر معهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يوجد عنده ما يجهزهم به كما في قوله تعالى : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، إلى قوله : ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون [ 9 \ 91 - 92 ] .
وكذلك من جانب آخر ، قد كالنساء والضعفاء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " يجاهد بالمال من لا يستطيع بالسلاح " . من جهز غازيا فقد غزا
أما الآية الثانية فهي في معرض الاستبدال والعرض والطلب أو ما يسمى بالمساومة ، فقدم النفس ؛ لأنها أعز ما يملك الحي ، وجعل في مقابلها الجنة وهي أعز ما يوهب ، وأحسن ما قيل في ذلك :
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها بشيء من الدنيا فذاك هو الغبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن
فالتجارة هنا معاملة مع الله إيمانا بالله وبرسوله ، وجهادا بالمال والنفس ، والعمل في ذلك :
أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن
[ ص: 114 ] الصالح ، كما قيل أيضا :
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا فإنما الربح والخسران في العمل
وفي آية : إن الله اشترى تقديم بشرى خفية لطيفة بالنصر لمن جاهد في سبيل الله وهي تقديم قوله : فيقتلون بالبناء للفاعل أي فيقتلون عدوهم ، ويقتلون [ 9 \ 111 ] بالبناء للمجهول ، لأن التقديم هنا يشعر بأنهم يقتلون العدو قبل أن يقتلهم ويصيبون منه قبل أن يصيب منهم ، ومثل هذا يكون في موقف القوة والنصر ، والعلم عند الله تعالى .