وجهة نظر .
وبالتحقيق في هذه المسألة وإثارة النزاع فيها ، يظهر أن النزاع والجدال فيها أكثر مما كانت تحتمل ، وهو إلى الشكلي أقرب منه إلى الحقيقي . ولا وجود له عمليا .
وتحقيق ذلك كالآتي : وهو ما داموا متفقين على - صلى الله عليه وسلم - ، ومتفقون على السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون شد الرحال ; فلن يتأتى لإنسان أن يشد الرحال للسلام دون المسجد ، ولا يخطر ذلك على بال إنسان ، وكذلك شد الرحل للصلاة في شد الرحال للمسجد النبوي للسلام على رسول الله المسجد النبوي دون أن يسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يخطر على بال إنسان . وعليه فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر ; لأن المسجد النبوي ما هو إلا بيته - صلى الله عليه وسلم - ، وهل بيته إلا جزء من المسجد كما في حديث الروضة : " " . ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة
فهذا قوة ربط بين بيته ومنبره في مسجده .
ومن ناحية أخرى : هل يسلم أحد عليه - صلى الله عليه وسلم - من قريب ، لينال فضل رد السلام عليه منه - صلى الله عليه وسلم - ، إلا إذا كان سلامه عن قرب ومن المسجد نفسه ؟
[ ص: 343 ] وهل تكون الزيارة سنية إلا إذا دخل المسجد وصلى أولا تحية المسجد ؟
وبهذا ; فلا انفكاك لشد الرحل إلى المسجد عن زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا لزيارته - صلى الله عليه وسلم - عن المسجد ، فلا موجب لهذا النزاع .
وهنا وجهة نظر أخرى وهي : أن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " " . فإن إطلاقه عن كل قيد من قرب أو بعد مما يدل على العموم من حيث المجيء للسلام عليه . ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي ، فأرد عليه السلام
فيقال : إن هذه فضيلة عظيمة ، ولا يتأتى للبعيد تحصيلها إلا بشد الرحال إليها كوسيلة لتحصيلها ، والوسيلة تأخذ حكم الغاية من وجوب أو ندب أو إباحة ، كالسعي إلى الجمعة واجب ; لأن أداء الجمعة واجب ، وإعداد الثياب الجميلة إليها مثلا مندوب ; لأن التجمل إليها مندوب ، ومثله إعداد الطيب بالنسبة لحضورها .
وقد رأيت لابن تيمية مناقشة هذه المسألة ، ولكنه جاء بأمثلة قابلة هي للنقاش ، فقال : ليس كل غاية مشروعة تكون وسيلتها مشروعة ، كحج المرأة وخروجها إلى المسجد ، فإن الأول مشروط فيه وجود المحرم . والثاني : مشروط فيه إذن الزوج .
والنقاش لها أن سفر المرأة مطلقا ممنوع إلا مع المحرم ، سواء كان لهذا المسجد وللحج أو لغيره .
وخروجها إلى المسجد ليس بمطلوب منها في الأصل ، ولكن إذا طلبت الإذن يؤذن لها . فالأصل فيه المنع حتى تحصل على الإذن .
وعلى هذا يقال : لو كان شد الرحل إليها غير مشروع ، لما كان لفاعله نصيب في فضلها ، ولا يحصل على رد السلام منه - صلى الله عليه وسلم - .
ولو كان كذلك للزم التنبيه عليه عند بيان فضيلته ; لعدم تأخير البيان ، فكأن يقال مثلا : فأرد عليه السلام ، إلا من شد الرحل لذلك . أو يقال : من أتاني من قريب فسلم علي . . . إلخ . ولكن لم يأت شيء من هذا التنبيه وبقي الحديث على عمومه .
وليعلم أن ابن تيمية - رحمه الله - يفرق بين السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين عامة المسلمين ، لما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حقوق وخصائص ليست لغيره من : وجوب محبة ، وتعظيم ، وفرضية صلاة ، [ ص: 344 ] وتسليم في صلواتنا ، وعند دخول المساجد والخروج منها ، بل وعند سماع ذكره مما ليس لغيره قط .
كما أن زيارة غيره - صلى الله عليه وسلم - للدعاء له والترحم عليه ، بينما زيارته - صلى الله عليه وسلم - والسلام عليه ; ليرد الله تعالى عليه روحه فيرد علينا السلام .
وزيارة غيره في أي مكان من العالم لا مزية له ، بينما زيارته - صلى الله عليه وسلم - من مسجده وقد خص بما لم يختص به غيره .
وأعتقد أن هذه المسألة لولا نزاع معاصري ابن تيمية معه في غيرها لما كان لها محل ولا مجال .
ولكنهم وجدوها حساسة ولها مساس بالعاطفة ، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأثاروها وحكموا عليه بالالتزام . أي : يلازم كلامه حينما قال :
لا يكون شد الرحال لمجرد الزيارة ، بل تكون للمسجد من أجل الزيارة ، عملا بنص الحديث ، فتقولوا عليه ما لم يقله صراحة . ولو حمل كلامه على النفي بدلا من النهي لكان موافقا ، أي : لا يتأتى ذلك ; لأنه لم يمنع زيارته - صلى الله عليه وسلم - ولا السلام عليه ، بل يجعلها من الفضائل والقربات ، وإنما يلتزم بنص الحديث في جعل شد الرحال إلى المسجد ، ولكل شيء ومنه السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما صرح بذلك في كتبه .
قال في بعض رسائله وردوده ما نصه :