قوله تعالى : ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله الآية .
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة عن نبيه نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام : أنه أخبر قومه أنه لا يسألهم مالا في مقابلة ما جاءهم به من الوحي والهدى ، بل يبذل لهم ذلك الخير العظيم مجانا من غير أخذ أجرة في مقابله .
وبين في آيات كثيرة أن ذلك هو شأن الرسل عليهم صلوات الله وسلامه ، كقوله في " سبإ " عن نبينا صلى الله عليه وسلم : قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله الآية [ 34 \ 47 ] .
وقوله فيه أيضا في آخر " سورة ص " : قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين [ 38 \ 86 ] .
وقوله في " الطور " ، و " القلم " : أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون [ 52 \ 40 ] [ 68 \ 46 ] .
وقوله في " الفرقان " : قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا [ 25 \ 57 ] .
وقوله في " الأنعام " : قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين [ 6 \ 90 ] .
وقوله عن هود في " سورة هود " : ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني الآية [ 11 \ 51 ] .
وقوله في " الشعراء " عن نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام : وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين [ 26 \ 109 ] .
وقوله تعالى عن رسل القرية المذكورة في " يس " : اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا الآية [ 36 \ 20 ، 21 ] .
وقد بينا وجه الجمع بين هذه الآيات المذكورة وبين قوله تعالى : [ ص: 179 ] قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في " سورة سبإ " في الكلام على قوله تعالى قل ما سألتكم من أجر فهو لكم [ 34 \ 47 ] .
ويؤخذ من هذه الآيات الكريمة : أن الواجب على أتباع الرسل من العلماء وغيرهم أن يبذلوا ما عندهم من العلم مجانا من غير أخذ عوض على ذلك ، وأنه لا ينبغي أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى ، ولا على تعليم العقائد والحلال والحرام .
ويعتضد ذلك بأحاديث تدل على نحوه ، فمن ذلك ما رواه ، ابن ماجه والبيهقي ، في مسنده ، والروياني رضي الله عنه ، قال : علمت رجلا القرآن ، فأهدى لي قوسا ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن أخذتها أخذت قوسا من نار " ، فرددتها أبي بن كعب . عن
قال البيهقي ، في هذا الحديث : هو منقطع ، أي بين وابن عبد البر عطية الكلاعي ، ، وكذلك قال وأبي بن كعب المزي .
وتعقبه ابن حجر بأن عطية ولد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأعله بأن راويه عن ابن القطان عطية المذكور هو عبد الرحمن بن سلم وهو مجهول .
وقال فيه ابن حجر في التقريب : شامي مجهول .
وقال الشوكاني في نيل الأوطار : وله طرق عن أبي . قال : لا يثبت منها شيء . قال الحافظ : وفيما قاله نظر . ابن القطان
وذكر المزي في الأطراف له طرقا ، منها : أن الذي أقرأه أبي هو ، ويشهد له ما أخرجه الطفيل بن عمرو في الأوسط الطبراني قال : أقرأني الطفيل بن عمرو الدوسي القرآن ، فأهديت له قوسا ، فغدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقلدها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " تقلدها من جهنم " أبي بن كعب الحديث ، وقال عن الشوكاني أيضا : وفي الباب عن معاذ عند الحاكم ، بنحو حديث أبي ، وعن والبزار عند أبي الدرداء الدارمي بإسناد على شرط مسلم بنحوه أيضا .
ومن ذلك ما رواه أبو داود ، ، وابن ماجه رضي الله عنه ، قال : علمت ناسا من عبادة بن الصامت أهل الصفة الكتاب والقرآن ، فأهدى إلي رجل منهم قوسا ، فقلت ليست بمال ، وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل ، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه ، فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ، أهدى إلي رجل قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب ، والقرآن ، وليست بمال ، وأرمي عليها في سبيل الله ؟ فقال : " إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها " ، وفي إسناده عن ، قال المغيرة بن زياد الموصلي الشوكاني : وثقه ، وكيع ، وتكلم فيه جماعة . ويحيى بن معين
[ ص: 180 ] وقال : ضعيف الحديث ، حدث بأحاديث مناكير ، وكل حديث رفعه فهو منكر ، وقال الإمام أحمد : لا يحتج بحديثه . اهـ . وقال فيه أبو زرعة الرازي ابن حجر في التقريب : صدوق له أوهام ، وهذا الحديث رواه المغيرة بن زياد البجلي أبو هشام - أو هاشم - الموصلي أبو داود من طريق أخرى ليس فيها المغيرة المذكور ، حدثنا ، عمرو بن عثمان وكثير بن عبيد ، قالا : ثنا ، حدثني بقية بشر بن عبد الله بن بشار ، قال عمرو : وحدثني ، عن عبادة بن نسي ، عن جنادة بن أبي أمية نحو هذا الخبر ، والأول أتم ، فقلت : ما ترى فيها يا رسول الله ؟ فقال : " جمرة بين كتفيك تقلدتها " ، أو " تعلقتها " اهـ منه بلفظه ، وفي سند هذه الرواية عبادة بن الصامت وقد تكلم فيه جماعة ، ووثقه آخرون إذا روى عن الثقات ، وهو من رجال بقية بن الوليد مسلم ، وأخرج له تعليقا . البخاري
وقال فيه ابن حجر في " التقريب " : صدوق ، كثير التدليس عن الضعفاء ، والظاهر أن أعدل الأقوال فيه أنه إن صرح بالسماع عن الثقات فلا بأس به ، مع أن حديثه هذا معتضد بما تقدم وبما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ومن ذلك ما رواه ، الإمام أحمد ، عن والترمذي رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : عمران بن حصين ، قال " اقرءوا القرآن واسألوا الله به ، فإن من بعدكم قوما يقرءون القرآن يسألون به الناس " الترمذي في هذا الحديث : ليس إسناده بذلك .
ومنها ما رواه أبو داود في سننه : حدثنا ، أخبرنا وهب بن بقية خالد ، عن حميد الأعرج ، عن ، عن محمد بن المنكدر قال : جابر بن عبد الله حدثنا خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقرأ القرآن ، وفينا الأعرابي ، والأعجمي : فقال : " اقرءوا فكل حسن ، وسيجيء أقوام يقيمونه كما يقام القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه " أحمد بن صالح ، حدثنا ، أخبرني عبد الله بن وهب عمر ، ، عن وابن لهيعة ، عن بكر بن سوادة وفاء بن شريح الصدفي ، عن قال : سهل بن سعد الساعدي اهـ . خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقتري فقال : " الحمد لله ، كتاب الله واحد ، وفيكم الأحمر ، وفيكم الأبيض ، وفيكم الأسود ، اقرءوا قبل أن يقرأه أقوام يقيمونه كما يقوم السهم يتعجل أجره ولا يتأجله "
ومنها ما رواه ، عن الإمام أحمد عبد الرحمن بن شبل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ، قال " اقرءوا القرآن ولا تغلوا فيه ولا تجفوا عنه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به " الشوكاني رحمه الله في " نيل الأوطار " في هذا الحديث : قال في مجمع الزوائد : رجال أحمد ثقات .
ومنها ما أخرجه الأثرم في سننه عن أبي رضي الله عنه قال : بالمدينة ، [ ص: 181 ] فحاك في نفسي شيء فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إن كان ذلك الطعام طعامه وطعام أهله فكل منه ، وإن كان يتحفك به فلا تأكله " ا هـ بواسطة نقل كنت أختلف إلى رجل مسن قد أصابته علة ، قد احتبس في بيته أقرئه القرآن ، فيؤتى بطعام لا آكل مثله في " المغني " ابن قدامة والشوكاني في " نيل الأوطار " .
فهذه الأدلة ونحوها تدل على أن لا يجوز أخذ الأجرة عليه . تعليم القرآن والمسائل الدينية
وممن قال بهذا : في إحدى الروايتين ، الإمام أحمد وأبو حنيفة ، ، والضحاك بن قيس وعطاء .
وكره ، الزهري وإسحاق تعليم القرآن بأجر .
وقال عبد الله بن شقيق : هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت .
وممن كره أجرة التعليم مع الشرط : الحسن ، ، وابن سيرين ، وطاوس ، والشعبي والنخعي ، قاله في " المغني " ، وقال : إن ظاهر كلام جواز أخذ المعلم ما أعطيه من غير شرط . الإمام أحمد
وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن ، وهو مذهب مالك ، . والشافعي
وممن رخص في أجور المعلمين : ، أبو قلابة ، وأبو ثور وابن المنذر .
ونقل أبو طالب عن أحمد أنه قال : التعليم أحب إلي من أن يتوكل لهؤلاء السلاطين ، ومن أن يتوكل لرجل من عامة الناس في ضيعة ، ومن أن يستدين ويتجر لعله لا يقدر على الوفاء فيلقى الله تعالى بأمانات الناس ، التعليم أحب إلي .
وهذا يدل على أن منعه منه في موضع منعه للكراهة لا للتحريم ، قاله في " المغني " . ابن قدامة
واحتج أهل هذا القول بأدلة ، منها ما رواه الشيخان ، وغيرهما من حديث رضي الله عنه : سهل بن سعد الساعدي
" إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك " ، فالتمس شيئا . فقال : ما أجد شيئا ، فقال : " التمس ولو خاتما من حديد " ، فالتمس فلم يجد شيئا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " هل معك من القرآن شيء ؟ " قال نعم ، سورة كذا وكذا يسميها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " قد [ ص: 182 ] زوجتكها بما معك من القرآن " ، وفي رواية " قد ملكتكها بما معك من القرآن " فقالوا : هذا الرجل أباح له النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضا عن صداقها ، وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز ، وما رد به بعض العلماء الاستدلال بهذا الحديث من أنه صلى الله عليه وسلم زوجه إياها بغير صداق إكراما له لحفظه ذلك المقدار من القرآن ، ولم يجعل التعليم صداقا لها - مردود بما ثبت في بعض الروايات في صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة ، فقالت : يا رسول الله ، إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم " هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ " ، فقال : ما عندي إلا إزاري ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : وفي رواية " انطلق فقد زوجتكها فعلمها من القرآن " لأبي داود . " علمها عشرين آية وهي امرأتك "
واحتجوا أيضا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم الثابت في صحيح من حديث البخاري : ابن عباس ، قالوا : الحديث وإن كان واردا في الجعل على الرقيا بكتاب الله فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب ، واحتمال الفرق بين الجعل على الرقية وبين الأجرة على التعليم ظاهر . " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله "
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن الإنسان إذا لم تدعه الحاجة الضرورية فالأولى له ألا يأخذ عوضا على تعليم القرآن ، والعقائد ، والحلال ، والحرام ، للأدلة الماضية ، وإن دعته الحاجة أخذ بقدر الضرورة من بيت مال المسلمين ; لأن الظاهر أن المأخوذ من بيت المال من قبيل الإعانة على القيام بالتعليم لا من قبيل الأجرة .
والأولى لمن أغناه الله أن يتعفف عن أخذ شيء في مقابل التعليم للقرآن ، والعقائد ، والحلال والحرام ، والعلم عند الله تعالى .