المسألة الرابعة : هل يقدم المضطر الميتة أو مال الغير  ؟ 
 [ ص: 67 ] اختلف العلماء في ذلك : فذهب مالك  إلى أنه يقدم مال الغير إن لم يخف أن يجعل سارقا ويحكم عليه بالقطع . ففي " موطئه " ما نصه : وسئل مالك  عن الرجل يضطر إلى الميتة أيأكل منها وهو يجد ثمرا لقوم ، أو زرعا ، أو غنما بمكانه ذلك ؟ قال مالك    : إن ظن أن أهل ذلك الثمر ، أو الزرع ، أو الغنم يصدقونه بضرورته حتى لا يعد سارقا فتقطع يده ، رأيت أن يأكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ، ولا يحمل منه شيئا ، وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة . وإن هو خشي ألا يصدقوه ، وأن يعد سارقا بما أصاب من ذلك ; فإن أكل الميتة خير له عندي ، وله في أكل الميتة على هذا الوجه سعة ، مع أني أخاف أن يعدو عاد ممن لم يضطر إلى الميتة يريد استجازة أموال الناس وزروعهم ، وثمارهم بذلك بدون اضطرار . قال مالك    : وهذا أحسن ما سمعت . ا ه . 
وقال ابن حبيب    : إن حضر صاحب المال فحق عليه أن يأذن له في الأكل ، فإن منعه فجائز للذي خاف الموت أن يقاتله ; حتى يصل إلى أكل ما يرد نفسه . 
الباجي    : يريد أنه يدعوه أولا إلى أن يبيعه بثمن في ذمته ، فإن أبى استطعمه ، فإن أبى ، أعلمه أنه يقاتله عليه . 
وقال خليل بن إسحاق المالكي  في " مختصره " الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى عاطفا على ما يقدم المضطر على الميتة وطعام غير إن لم يخف القطع وقاتل عليه . هذا هو حاصل المذهب المالكي في هذه المسألة . 
ومذهب  الشافعي  فيها : هو ما ذكره النووي  في " شرح المهذب " بقوله : المسألة الثامنة : إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير ، وهو غائب  فثلاثة أوجه ، وقيل ثلاثة أقوال : أصحها يجب أكل الميتة ، والثاني : يجب أكل الطعام ، والثالث : يتخير بينهما . 
وأشار  إمام الحرمين  إلى أن هذا الخلاف مأخوذ من الخلاف في اجتماع حق الله تعالى ، وحق الآدمي ولو كان صاحب الطعام حاضرا ، فإن بذله بلا عوض ، أو بثمن مثله ، أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها ومعه ثمنه ، أو رضي بذمته لزمه القبول ، ولم يجز أكل الميتة ، فإن لم يبعه إلا بزيادة كثيرة فالمذهب والذي قطع به العراقيون ، والطبريون ، وغيرهم : أنه لا يلزمه شراؤه ولكن يستحب ، وإذا لم يلزمه الشراء فهو كما إذا لم يبذله أصلا ، وإذا لم   [ ص: 68 ] يبذله لم يقاتله عليه المضطر إن خاف من المقاتلة على نفسه ، أو خاف هلاك المالك في المقاتلة ، بل يعدل إلى الميتة ، وإن كان لا يخاف ; لضعف المالك ، وسهولة دفعه فهو على الخلاف المذكور فيما إذا كان غائبا ، هذا كله تفريع على المذهب الصحيح . 
وقال البغوي    : يشتريه بالثمن الغالي ، ولا يأكل الميتة ، ثم يجيء الخلاف السابق في أنه يلزمه المسمى أو ثمن المثل ، قال : وإذا لم يبذل أصلا وقلنا طعام الغير أولى من الميتة يجوز أن يقاتله ، ويأخذه قهرا ، والله أعلم . 
حاصل مذهب  الإمام أحمد  في هذه المسألة أنه يقدم الميتة على طعام الغير . 
قال الخرقي  في " مختصره " : ومن اضطر فأصاب الميتة وخبزا لا يعرف مالكه  أكل الميتة . اه . 
وقال  ابن قدامة  في " المغني " في شرحه لهذا الكلام ما نصه : وبهذا قال  سعيد بن المسيب  ،  وزيد بن أسلم    . 
وقال مالك    : إن كانوا يصدقونه أنه مضطر أكل من الزرع والثمر ، وشرب اللبن ، وإن خاف أن تقطع يده أو لا يقبل منه أكل الميتة ، ولأصحاب  الشافعي  وجهان : أحدهما : يأكل الطعام وهو قول  عبد الله بن دينار    ; لأنه قادر على الطعام الحلال فلم يجز له أكل الميتة كما لو بذله له صاحبه . 
ولنا أن أكل الميتة منصوص عليه ، ومال الآدمي مجتهد فيه ، والعدول إلى المنصوص عليه أولى ; ولأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة ، وحقوق الآدمي مبنية على الشح والتضييق    ; ولأن حق الآدمي تلزمه غرامته ، وحق الله لا عوض له . 
				
						
						
