المسألة الثالثة : هل يجب الأكل من الميتة ونحوها إن خاف الهلاك  ، أو يباح من غير وجوب ؟ اختلف العلماء في ذلك ، وأظهر القولين الوجوب ; لقوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة    ) [ 2 \ 195 ] ، وقوله : ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما    ) [ 4 \ 29 ] . 
ومن هنا قال جمع من أهل الأصول : إن الرخصة قد تكون واجبة ، كأكل الميتة عند خوف الهلاك لو لم يأكل منها ، وهو الصحيح من مذهب مالك  ، وهو أحد الوجهين للشافعية ، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة أيضا ، وهو اختيار ابن حامد ،  وهذا هو مذهب أبي حنيفة  رحمهم الله ، وقال مسروق    : من اضطر إلى أكل الميتة ، والدم ، ولحم   [ ص: 66 ] الخنزير فلم يأكل حتى مات دخل النار ، إلا أن يعفو الله عنه . 
وقال أبو الحسن الطبري المعروف بالكيا    : وليس أكل الميتة عند الضرورة  رخصة بل هو عزيمة واجبة ، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيا ، نقله القرطبي وغيره . 
وممن اختار عدم الوجوب ولو أدى عدم الأكل إلى الهلاك أبو إسحاق  من الشافعية ، وأبو يوسف  صاحب أبي حنيفة    - رحمهم الله - وغيرهم ، واحتجوا بأن له غرضا صحيحا في تركه وهو اجتناب النجاسة ، والأخذ بالعزيمة . 
وقال  ابن قدامة  في " المغني " في وجه كل واحد من القولين ، ما نصه : وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر ؛ فيه وجهان : أحدهما : يجب وهو قول مسروق  ، وأحد الوجهين لأصحاب  الشافعي    . 
قال الأثرم    : سئل أبو عبد الله  عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل  ، فذكر قول مسروق    : من اضطر فلم يأكل ولم يشرب دخل النار   . وهذا اختيار ابن حامد  ، وذلك لقول الله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة    ) ، وترك الأكل مع إمكانه في هذا الحال إلقاء بيده إلى التهلكة ، وقال الله تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما    ) [ 4 \ 29 ] ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله فلزمه ، كما لو كان معه طعام حلال . 
والثاني : لا يلزمه ; لما روي عن  عبد الله بن حذافة السهمي  صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن طاغية الروم  حبسه في بيت ، وجعل معه خمرا ممزوجا بماء ، ولحم خنزير مشوي ثلاثة أيام ، فلم يأكل ولم يشرب حتى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته ، فأخرجوه فقال : قد كان الله أحله لي ; لأني مضطر ، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام   ; ولأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص ; ولأن له غرضا في اجتناب النجاسة والأخذ بالعزيمة ، وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه . 
وقد قدمنا أن أظهر القولين دليلا ؛ وجوب تناول ما يمسك الحياة ; لأن الإنسان لا يجوز له إهلاك نفسه  ، والعلم عند الله تعالى . 
				
						
						
