ضرب الله تعالى في الآية الأولى من هذه الآيات مثلا يتضح لمن عقله من المشركين ما تقرر فيها وفي الآيات قبلها من بينات التوحيد ودلائله ، ويظهر لهم سوء حالهم وقبح مآلهم في شركهم ، ويعلل لهم ما بدئ به سياق الآيات الأخيرة فيه - أي التوحيد - من النهي عن دعاء غير الله وعن اتباع أهوائهم ، ويشرح لهم مفهومه ، ويفصل لهم مضمونه ، ويبين لهم مقابله . وأعني بهذا السياق ما في حيز قوله تعالى : ( قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ) ( 40 : 66 ) إلخ . وحيز قوله : ( قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر ) ( 63 ) وما يليه من الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة ، وختم الآية بالأمر بالإسلام المقابل لطريق الضلال والهوى ، وبدأ الآية الثانية ببيان أعظم أعمال طريق الهدى ، والآية الثالثة في التذكير بدلائل ذلك ، وعاقبته ، وصدق وعيده تعالى ، وكمال علمه ، وحكمته فيه ، قال :
[ ص: 436 ] ( قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ) روي عن أن المشركين قالوا للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين السدي محمد ، فقال الله : ( قل أندعوا ) الآية ، وعن قتادة أنه قال في الآية : خصومة علمها الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة . ولعل هذا مراد ؛ إذ لا يظهر أن مراده أن المشركين قالوا ذلك مرة واحدة لبعض المؤمنين أو لجميعهم ، بل كانوا يفتنون المسلمين دائما ويدعونهم إلى العود إلى الكفر ، ومنه ما روي من دعوة السدي - رضي الله عنهما لأبيه إلى الشرك فنزلت الآية ردا عليهم ، فلقنهم الله تعالى هذه الحجة المؤثرة - بما فيها من المثل الجلي الواضح لحالي الشرك وضلاله والتوحيد وهدايته - في سياق حجج الحق الكثيرة في هذه السورة التي نزلت دفعة واحدة كما تقدم ، والاستفهام للإنكار والتعجب ، والمعنى : قل أندعو - متجاوزين دعاء الله القادر على استجابة دعائنا - ما لا يضرنا ولا ينفعنا - كالأصنام وسائر ما عبد من دون الله - ونرد على أعقابنا بالعود إلى ضلالة الشرك الفاضحة بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام ! . عبد الرحمن بن أبي بكر
ومن بلاغة هذه العبارة أنها بينت علة الإنكار والتعجب في الاستفهام من خمسة أوجه :
( أحدها ) أن تحول وارتداد من دعاء القادر على كل شيء ، الذي يكشف ما يدعى إليه إن شاء - إلى دعاء العاجز الذي لا يقدر على نفع ولا ضر . دعاء غير الله تعالى
( ثانيها ) أنه نكوص على الأعقاب ، وتقهقر إلى الوراء ، والعرب تقول فيمن عجز بعد قدرة ، أو سفل بعد رفعة ، أو أحجم بعد إقدام على محمدة : نكص على عقبيه ، وارتد على عقبيه ورجع القهقرى ، والأصل فيه رجوع الهزيمة أو الخيبة والعجز عن السير المحمود ، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم .
( ثالثها ) التعبير ب ( نرد ) المبني للمجهول بدل التعبير ب " نرتد " أو " نرجع " ، والنكتة فيه أن هذا التحول المذموم ليس من شأنه أن يقع من عاقل ; لأن العاقل إذا وصل إلى مرتبة عالية من العلم والكمال فإنه لا يختار الرجوع عنها واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير وأعلى ، فإذا كانت فطرته وعقله يأبيان عليه هذه الردة والنكوص ، فكيف يرد وهو لا يرتد ؟ .
( رابعها ) أن من أنقذه الله القدير العزيز الرحيم من الضلالة ، وهداه إلى صراط السعادة بما أراه من آيات في الأنفس والآفاق ، وما شرح به صدره للإسلام ، فمن يقدر أن يضله بعد إذ هداه الله ؟ ( ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام ) ( 39 : 37 ) .
( خامسها ) المثل الذي يصور المرتد في أقبح حالة كانت تتصورها العرب ، وذلك قوله تعالى : ( كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا ) قرأ حمزة " استهواه " بألف ممالة ، وكانوا يرسمونها ياء كأصلها وإن تكن طرفا ، ورسمها في المصحف [ ص: 437 ] الإمام هكذا ( استهوته ) وهو يحتمل القراءتين . وتقدير التشبيه في الكلام أنرد على أعقابنا بعد تلك الهداية مثل رد الذي استهوته الشياطين في الأرض ، أو مشبهين بالذي استهوته الشياطين - إلخ ! . قال أهل اللغة : استهوته الشياطين : ذهبت بهواه وعقله ، وقيل : استهامته وحيرته . وقيل : زينت له هواه ، ويقال للمستهام الذي استهامته الجن : واستهوته الشياطين . القتيبي : استهوته الشياطين هوت به وأذهبته - جعله من هوى يهوي . وجعله من هوى يهوى ، أي زينت له هواه . كذا في لسان العرب وغيره ، والمستهام هو الذي جعله العشق أو الجنون هائما ، أي يسير على وجهه لا يقصد غاية معينة ، وكانت العرب في الجاهلية تزعم أن الجنون كله من الزجاج ، والأصل في قولهم : جن فلان - مسته الجن فذهبت بعقله . وكانوا يقولون : إن الجن تظهر لهم في البراري والمهامه ، وتتلون لهم بألوان مختلفة ، فتذهب بلب من يراها فيهيم على وجهه لا يدري أين يذهب حتى يهلك . والشياطين التي تتلون هي التي يسمونها الغيلان والأغوال والسعالي ( بوزن الصحاري ) ، وروى تأثير الجن مسلم في صحيحه من حديث جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا عدوى ولا طيرة ولا غول " قال النووي في شرحه : قال جمهور العلماء : كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات ، وهي من جنس الشياطين ، تتراءى للناس وتتغول تغولا ، أي تتلون تلونا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم ، فأبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذاك ، وقال آخرون : ليس المراد نفي وجود الغول ، وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها . قالوا : ومعنى " لا غول " لا تستطيع أن تضل أحدا ، ويشهد له حديث آخر " لا غول ولكن السعالي " وقال العلماء : السعالي - بالسين المفتوحة والعين المهملتين - هم سحرة الجن ، أي : ولكن في الجن سحرة ، لهم تلبيس وتخييل " وفي الحديث الآخر " إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان " أي ادفعوا شرها بذكر الله تعالى ، وهذا دليل على أنه ليس المراد نفي أصل وجودها ، وفي حديث أبي أيوب : كان لي تمر في سهوة ، وكانت الغول تجيء فتأكل منه . اهـ .
أقول : إن هذا الشرح مأخوذ من النهاية لابن الأثير ، ليس للنووي من التصرف فيه إلا عزو إلى جمهور العلماء ، وهو القول الذي قدمه نفي وجود الغول ابن الأثير ، وقد نقل عبارته ابن منظور في لسان العرب وغيره من العلماء . وما عزاه النووي إلى الجمهور هو المتبادر في لفظ الحديث ، فإن كلمة " لا غول " نافية لجنس الغول كما هو المتبادر ، وقد ورد هذا اللفظ وحده في حديث عند لأبي هريرة أبي داود ، وما أيد به قول غير الجمهور لا يحتج بشيء منه ; ولذلك لم يعرج الجمهور عليه ، ولكن روى بإسناد صحيح أن الغيلان ذكروا عند ابن أبي شيبة عمر فقال : إن أحدا لا يستطيع أن يتحول عن صورته التي خلقه الله عليها ، ولكن لهم سحرة كسحرتكم ، فإذا رأيتم ذلك فأذنوا وهذا رأي لعمر - رضي الله عنه - [ ص: 438 ] فيما كانوا يرونه ، وهو أنه تخييل باطل من ذلك سحر الجن . والجمهور على أن الجن تتشكل ، وهو لا يقتضي إثبات الغول ، وقد اشتهر أن الغول اسم ليس له مسمى في الحقيقة . قال ابن هشام في قول كعب بن زهير :
فما تدوم على حال تكون بها كما تلون في أثوابها الغول
من شرحه لقصيدته ( بانت سعاد ) والغول بالضم كل شيء اغتال الإنسان فأهلكه ، والمراد هنا الواحدة من السعالي وهي إناث الشياطين ، سميت بذلك لأنها - فيما زعموا - تغتالهم ، أو لأنها تتلون كل وقت ، ومن قولهم : تغولت على البلاد - إذا اختلفت . وللعرب أمور تزعمها لا حقيقة لها ، منها أن الغول تتراءى وتتلون لهم ، وتضلهم عن الطريق . وذكر أشياء أخرى من خرافاتهم ، ثم ذكر حديث مسلم في نفي الغول والطيرة ، وقول بعض الشعراء :الجود والغول والعنقاء ثالثة أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن
وما فسر به ابن هشام الغول هو المعتمد المشهور ، قال في اللسان : والسعلاة والسعلاء - الغول . وقيل : هي ساحرة الجن ، فجعل هذا قولا ضعيفا ثم ذكر قولين آخرين مثله . أحدهما : إنها أخبث الغيلان ، وثانيهما : أنها أنثى الغيلان . ويشبهون المرأة القبيحة الوجه السيئة الخلق بالسعلاة ، وشبهوا بها الخيل أيضا ، والظاهر أن بعضهم كان يخيل إليه الخوف في البراري المنقطعة شيئا يتلون فيهم على وجهه خوفا لاعتقاده أنه من الجن ، ويحتمل أن يكون بعضهم رأى بعض القردة الراقية التي تشبه العجوز القبيحة الوجه فسموها السعلاة ، وأن تكون السعلاة التي أكلت من التمر في حديث أبي أيوب منها - إن صح ما روي وكان عن مشاهدة - وإلا كان مبنيا على ما توارثه قبل نفي النبي - صلى الله عليه وسلم - له أو قبل العلم بهذا النفي . وقد قال الله تعالى في الشيطان : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) ( 7 : 27 ) وقال : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير الجن حين استمعوا القرآن منه ، بل علم ذلك بالوحي لقوله تعالى : ( ابن عباس قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) ( 72 : 1 ) ولكن في حديث - وكان معه - أنه رأى أسودة تشبه السحاب ، وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه . وروى ابن مسعود البيهقي في مناقب بإسناده عن الشافعي الربيع : سمعت يقول : من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبيا . انتهى . وقد حملوه كما حملوا الآية على من يدعي رؤيتهم بصورتهم التي خلقهم الله عليها دون الصور التي يتمثلون بها . الشافعي
[ ص: 439 ] على أننا نقول : إن ما اشتهر عن العرب في مسألة الأغوال واستهوائها بعض الناس في الفلوات حتى يضلوا الطرق لا بد أن يكون له أصل عندهم . والراجح المعقول فيه ما ذكرناه عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - وصرح به بعض المتكلمين من أنه تخيل لا حقيقة له في الخارج ، وقد يكون منه رؤية حيوان غريب كبعض القردة . والعرب تطلق اسم الشيطان على العاتي المتمرد من الإنس والجن ، وعلى بعض الحيوان والحشرات ، وعلى كل قبيح الصورة . قال تعالى في شجرة الزقوم : ( طلعها كأنه رءوس الشياطين ) ( 37 : 65 ) قيل هو نبات قبيح ، وقيل : شبهها بالعارم من الجن . قال في التاج : وقال في تفسيره : وجهه أن الشيء إذا استقبح شبه بالشياطين ، فيقال : كأنه وجه شيطان ، وكأنه رأس شيطان ، والشيطان لا يرى ، ولكنه يستشعر أنه أقبح ما يكون من الأشياء ، ولو رئي لرئي في أقبح صورة . وقيل : كأنه رءوس حيات ، فإن العرب تسمي بعض الحيات شيطانا ، وأورد شاهدا من الشعر على ذلك ، وورد في بعض الأخبار أن حيات البيوت من الجن ، وفي حديث الزجاج عند أبي ثعلبة الخشني ابن حبان والحاكم وغيرهما " : صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء ، وصنف حيات وعقارب ، وصنف يحلون ويظعنون الجن على ثلاثة أصناف " . قال السهيلي : هذا الأخير هم السعالي ، وعن أنهم أجناس خالصهم ريح - أي كالريح - لا يأكلون ، ولا يشربون ، ولا يتوالدون ، ولا يموتون ، ومنهم من يأكلون . . إلخ . والحاصل أن اسم الجن والشياطين يطلق عند العرب على بعض الحشرات ، والحيوانات الضارة ، أو القبيحة ، وعلى ما يؤثر عن وهب بن منبه أهل الكتاب وغيرهم من العالم الروحي الغيبي الذي يوسوس للناس فيزين لهم الشر ، ويلابس بعضهم أحيانا فيصابون بالصرع أو الجنون ، ويتمثل للكهان وغيرهم ، ويراه الأنبياء وبعض الصالحين من باب الكرامة الخاصة . والأكاذيب عن جميع الأمم في ذلك كثيرة ، والشبهات فيها غير قليلة . ولكن قل المصدقون بها في بلاد العلم والمدنية .