( الأول ) أنه تشبيه لمن يرتد مشركا بعد الإيمان بالمستهام الذي يضل في الفلوات حيران لا يهتدي ، تاركا رفاقه على الجادة ينادونه : ائتنا ، عد إلينا ، فلا يستجيب لهم لانجذابه وراء ما تراءى له من الغيلان بغير عقل ولا بصيرة . وهذا التفسير مروي عن ، وهو إحدى روايتين عن السدي . قال ابن عباس بعد بيان التشبيه : فذلك مثل من تبعكم بعد المعرفة السدي لمحمد ، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام . ومما جاء عن في هذه الرواية : " إن الغول تدعوه باسمه واسم أبيه وجده ، فيتبعها ويرى أنه في شيء ، فيصبح وقد ألقته في هلكة وربما أكلته ، أو تلقيه في مضلة الأرض يهلك فيها عطشا " ومن المفسرين من يرى أن هذا [ ص: 440 ] التشبيه مثبت للغول الذي نفاه الحديث الصحيح الذي أخذ به جمهور العلماء كما تقدم ، ومنهم من يرى أنه لا يقتضي إثباته ؛ لأن التشبيه قد يبنى على المتعارف لأجل التأثير ، وقد أشار ابن عباس إلى ذلك بقوله : وهذا مبني على ما كانت تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن تستهوي الإنسان ، والغيلان تستولي عليه كقوله : ( الزمخشري الذي يتخبطه الشيطان من المس ) ( 2 : 275 ) انتهى . وقد شنع عليه ابن المنير في هذا ، إذ جعله من إنكار الجن - وهو لا ينكرهم - وتبعه الألوسي فقال : وليس هذا مبنيا على زعمات العرب كما زعم من استهوته الشياطين . انتهى . وما هذا الشنيع إلا من تعصب المذاهب ، ولولاه لما وقع أمثال هؤلاء الأذكياء في هذه الغياهب ، وقد علمت أنه لا دليل على كون ما كانت تزعمه العرب في الجاهلية من شياطين الجن ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذبهم في دعوى الغول ، وأن جمهور العلماء أخذوا بهذا التكذيب ولم يؤولوه ، وأن من أوله بإنكار تغول الغيلان وإضلالهم للناس مكذب للعرب في زعمها ذاك ، وإنما بنى التشبيه على ما قيل من استهوائهم وإضلالهم بتغولهم ، لا على مجرد وجودهم ، وإذا كان الاستهواء بتخيلات لا حقيقة لها يكون التشبيه أبلغ وأقوى ، وخلاصته أن من يتبع داعي الشرك كالمستهوى بما لا حقيقة له من الأوهام الضارة الشيطانية التي تنسب إلى الأغوال الخيالية . ولا يقتضي ذلك إنكار الجن والشياطين ، وما كان ولا شيعته من المنكرين ، وإنما الجن من عالم الغيب ، لا نصدق من خبرهم إلا ما أثبته الشرع ، أو ما هو في قوته من دليل الحس أو العقل ، ولم يثبت شرعا ولا عقلا ولا اختيارا أن شياطين الجن تأكل الناس ، ولا أنها تظهر لهم في الفيافي والقفار ، كما كانت تزعم العرب وغير العرب في طور الجهل والخرافات . الزمخشري
وأما حديث خرافة فقد رواه الترمذي في جامعه وفي الشمائل من طريق أبي عقيل عبد الله بن عقيل الثقفي ، وأبو عقيل مختلف فيه ، وثقه أحمد وأبو داود ، وروي عن أنه منكر الحديث ، والظاهر أنه قد ذكر على سبيل الحكاية ، فهو نحو مما نقله ابن معين الكلبي عن العرب من أنه رجل من بني عذرة أسرته الجن في الجاهلية ، فأقام فيهم زمنا ثم أعادوه إلى الإنس ، فكان يحدث بما رأى فيهم من العجائب ، فصار الناس يقولون : " حديث خرافة " لكل حديث مستملح يكذبونه ، على أن ما عساه يثبت لبعض الأفراد على خلاف الأصل لا يتخذ دليلا على صدق ما كذبه الحديث الصحيح من أخبار الأغوال ونحوها ، وهذا الحديث غير معارض لهذه الآية حتى على هذا القول في التشبيه ؛ لجواز أن يسمى ما كان يتراءى لهم بالشيطان لقبحه وضرره ، وإن كان كالسراب لا حقيقة له في نفسه ، أو يكون حيوانا مفترسا تمثله الأوهام بأشكال مختلفة . وراجع ما يقرب لك في هذا تفسير ( ولكن شبه لهم ) ( 4 : 157 ) .
[ ص: 441 ] فإن فرضنا وقوع التعارض على هذا القول نمنعه بترجيح ( القول الثاني ) عليه ، وهو أن الذي استهوته الشياطين في الأرض هو الذي أضلته بوسوستها ، وحملته على اتباع هواه ، فاتخذ دينه لعبا ولهوا ، وغرته الحياة الدنيا ، فآثرها على الآخرة لإنكاره إياها ، أو عدم إيمانه بوعد الله ووعيده فيها . وهذا في معنى الرواية الأخرى عن ، قال : هو الرجل الذي لا يستجيب لهدى الله ، وهو رجل أطاع الشيطان ، وعمل في الأرض بالمعصية ، وحاد عن الحق وضل عنه . إلا أن في هذه الرواية أن أصحاب المستهوى الذين يدعونه إلى الهدى هم الضالون المتبعون للهوى ، وإنما يصحب الإنسان أمثاله ، فالمراد يدعونه إلى ما يزعمون أنه هدى كما هو شأن كل داع إلى ضلالة ، فكلمة الهدى ذكرت بطريق الحكاية ، أو المراد بها الطريق الجادة ، وقد روى ابن عباس أبو الشيخ عن مجاهد قال في قراءة ( يدعونه إلى الهدى بينا ) قال : الهدى : الطريق ، أنه بين . والكلام بعدها رد من الله تعالى لهذا الزعم ، ومعناه أن الهدى صراط الله المستقيم لا ما هم عليه من طرق الوهم . وأنكر ابن مسعود هذه الرواية بناء على أن الجملة لم ترد على سبيل الحكاية ، وإنما هي من كلام الله تعالى ، والله تعالى لا يسمي الضلالة هدى ، وسواء أصح ما أنكره ابن جرير أم لا ، فإن المعنى الثاني لا يتوقف عليه ، بل يصح أن يقال : إن ذلك الذي استهوته الشياطين بوسوستها - حال كونه حيران - له أصحاب يدعونه إلى الهدى والخروج من ذلك الضلال ، تتنازعه وسوسة شياطينه ودعوة أصحابه ، فلا يستطيع التفلت من الأولى فيكون من المهتدين ، ولا البت برد الأخرى فيكون من الأخسرين ، بل يظل هائما في حيرته ، مضطربا في أمره ، وإنما جعل دعاة الهدى أصحابا له باعتبار ما كانوا عليه قبل إضلال الشياطين له ، ومثل هذا لا يستقر على حال من القلق ، والتشبيه يدل بهذا التوجيه على أن المرتد عن الإسلام لا يمكن أن يعود مطمئنا بالشرك ، ووجه الاستفهام الإنكاري في أول الآية على هذا الوجه : أيعقل أن يختار هذه الحال السوأى التي لا بد منها لمن يرتد عن الإيمان ، وهي أسوأ حال يمكن أن يكون عليها الإنسان ؟ . ابن جرير
( قل إن هدى الله هو الهدى ) أعاد الأمر من القول هنا كما أعاده فيما تقدم قريبا بمعنى ما هنا من التبرؤ من الشرك والضلالة والاعتصام بما أنزل الله من الهداية ، وهو قوله :
( قل إني نهيت ) ( 56 ) إلى قوله : ( قل لا أتبع أهواءكم ) إلخ . وفي ذلك ما فيه من العناية بكل من البراءة والاعتصام في النهي والأمر ، ويعبرون عنهما بالتخلي والتحلي . أي قل إن هدى الله الذي أنزل به آياته ، وأقام عليه حججه وبيناته - هو الهدى الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لا ما تدعون إليه من أهوائكم اتباعا لما ألفيتم عليه آباءكم ، وهذا الهدى المعقول هو الذي دعينا إليه فأجبنا ، وأمرنا به فأطعنا ، ( وأمرنا لنسلم لرب العالمين ) فأسلمنا ، واللام في " لنسلم " فيها وجهان : ( أحدهما ) أنها للتعليل ، والتقدير : وأمرنا بهذا الهدى لأجل أن نسلم [ ص: 442 ] قلوبنا ونوجهها لرب العالمين وحده بالإذعان والخضوع لدينه والإخلاص في عبادته ، إذ لا يستحق العبادة من العباد إلا ربهم الذي خلقهم وغذاهم بنعمه ( وثانيهما ) أنها للمصدرية ، أي وأمرنا بأن نسلم لله رب العالمين ، وقد روي القول بتأويل الفعل بالمصدر هنا وفي مثل ( يريد الله ليبين لكم ) ( 4 : 26 ) ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) ( 5 : 6 ) إلخ . عن الخليل ومن تابعهما . وصرح وسيبويه الكسائي بأن اللام تكون حرفا مصدريا بعد الفعل ، من الأمر والإرادة خاصة . وهذا الوجه أوجه وأظهر . والفراء
( وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) أي أمرنا بأن نسلم لرب العالمين ، وبأن أقيموا واتقوه ، أي قيل لنا ذلك ، وقدر بعضهم : أمرنا بالإسلام وبإقامة الصلاة والتقوى ، وإقامة الصلاة : الإتيان بها على الوجه الذي شرعت لأجله ، وهو كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتزكي النفس بمناجاة الله وذكره ( ولذكر الله أكبر ) ( 29 : 45 ) ولم يكن شرع عند نزول السورة زكاة ولا صيام ولا حج ، والتقوى : اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه وتنكب سننه في خلقه من ضرر وفساد ، فهذا أوسع معنى من تفسيرها بامتثال الأمر واجتناب النهي ( وهو الذي إليه تحشرون ) أي تجمعون وتساقون إلى لقائه يوم القيامة دون غيره ، فيحاسبكم على أعمالكم ، ويجازيكم عليها . وإذا كان الحشر إليه وحده ، والجزاء بيده وحده ، فمن الجنون أن يعبد غيره ويدعى ، أو يخاف أو يرجى .
( وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ) أي خلقهما بالأمر الثابت المتحقق ، وهو آياته القائمة بالسنن المطردة المشتملة على الحكمة البالغة الدالة على وجوده وصفاته الكاملة ، فلم يخلقهما باطلا ولا عبثا ، فإذا لا يترك الناس سدى ، بل يجزي كل نفس بما تسعى .
( ويوم يقول كن فيكون قوله الحق ) أي وقوله هو الحق يوم يقول للشيء كن فيكون ، وهو وقت الإيجاد والتكوين ، فلا مرد لأمره التكويني ولا تخلف ، فكذلك يجب الإسلام والخضوع لأمره التكليفي بلا حرج في النفس ولا تكلف ; لأن الأمر حق ، والخلق حق ( ألا له الخلق والأمر ) ( 7 : 45 ) .
( وله الملك يوم ينفخ في الصور ) ويبعث من في القبور ، فإذا كان لغيره ملك ما في الدنيا بمقتضى سننه المقدرة ، وشريعته المقررة ، فلا تملك يومئذ نفس ما مهما تكن مكرمة لنفس ما مهما تكن قريبة أو مقربة - شيئا ما من خير أو شر ، أو نفع أو ضر ، وإنما الأمر يومئذ لله وحده . فكيف يدعو من هداه إلى هذه الحقائق غيره من دونه فيرد على عقبيه ، ويرجع إلى شر حاليه ! والصور في اللغة : القرن ، واستشهد له في اللسان بقول الراجز :
لقد نطحناهم غداة الجمعين نطحا شديدا لا كنطح الصورين
وقد ثقب الناس قرون الوعول والظباء وغيرها فجعلوا منها أبواقا ينفخون فيها فيكون لها [ ص: 443 ] صوت شديد يدعى به الناس إلى الاجتماع ، ويعزفون به كغيره من آلات السماع ، وقد ورد ذكره في سفر الأيام الأولى من كتب العهد العتيق قال : ( 5 : 28 فكان جميع إسرائيل يصعدون تابوت عهد الرب بهتاف وبصوت الأصوار والأبواق والصنوج ، يصوتون بالرباب والعيدان ) وقال بعض المفسرين : إن الصور جمع صورة كبسر وبسرة ، وصوف وصوفة . وقيل في سور المدينة أيضا : إنه جمع سورة ، ونقلوا هذا التفسير عن أبي عبيدة من رواة اللغة ، وقد رده جمهور المفسرين بأنه لا يظهر معناه في قوله تعالى : ( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) ( 39 : 68 ) وهذه هي ، ولا يظهر معنى لكونها في صور المخلوقات ، وإنما يظهر ذلك في النفخة الأولى ، وهي قوله في تتمة الآية : ( النفخة الأخرى التي يبعث الله بها العباد ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) وبأنه مخالف لما ورد في الأخبار والآثار من تفسيره بالقرن والبوق أو بما يشبههما ، وفي بعض الآثار الإسرائيلية أنه مستقر أرواح الخلق ، فإذا نفخ فيه نفخة البعث تصيب النفخة تلك الأرواح ، فتذهب إلى أجسادها بعد أن يكون الله قد أعادها كما بدأها ، ورده اللغويون أيضا بأن المقيس في كلام العرب أن ما كان على وزن فعلة بضم الفاء يجمع على فعل بضم الفاء وفتح العين ، كغرفة وغرف ، وصورة وصور ، وقد أجمع القراء على فتح الواو في قوله تعالى : ( وصوركم فأحسن صوركم ) ( 40 : 64 ) وأما ما جاء من جمعه بضم فسكون كبسر وصوف فهو خاص بما سبق استعمال الجمع فيه على استعمال الواحد ، وروى الأزهري هذا الرد بسنده عن أبي الهيثم ، ويراجع في مادتي سورة وصور من لسان العرب ، فقد أطال الكلام في المسألة فيهما .وأما فقد أخرجها أصحاب السنن والتفسير المأثور وغيرهم بأسانيد لم يصح منها شيء على شرط الشيخين ، ولذلك لم يخرجا منها شيئا ، وأقواها ما رواه الأخبار المرفوعة في الصور أبو داود ، وحسنه ، والترمذي وغيرهم ، وصححه والنسائي الحاكم من حديث عبد الله بن عمر قال : " وروي عن سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصور فقال : " هو قرن ينفخ فيه أنه قال : الصور كهيئة القرن ينفخ فيه ، وورد في روايات يقوي بعضها بعضا ، وصحح بعضها ابن مسعود الحاكم - أن الملك الموكل بالصور مستعد للنفخ فيه ، ينتظر متى يؤمر ، وفي بعضها أنه وكل به ملكان ، وورد في وصف ملك الصور ، وفي صفة الصور ، والنفخ وتأثيره وما يتعلق به ، وما يكون يومئذ - روايات منكرة ، بعضها مأخوذ من الإسرائيليات ، عن كعب الأحبار ، وبعضها ملفق من أخبار كثيرة ، وممزوج بالآيات الواردة في قيام الساعة كحديث ووهب بن منبه الطويل الذي رواه عنه أبي هريرة من طريق الطبراني إسماعيل بن رافع قاضي المدينة ، وقد ذكر منه ابن كثير ما يملأ عدة صفحات ، وذكر أنه غريب جدا ، وأن إسماعيل تفرد به ، وأنه اختلف عليه في إسناده على وجوه كثيرة ، وذكر الخلاف في توثيق إسماعيل وتضعيفه ، ومنه أنه نص [ ص: 444 ] على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد وأبي حاتم ، ومنهم من قال : إنه متروك . وسنعود إلى الكلام على الصور وحكمة النفخ فيه في تفسير سورتي الأنبياء والزمر ، إن أحيانا الله تعالى .
( عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير ) فسر الغيب والشهادة هنا بالسر والعلانية ، وقال ابن عباس الحسن : الشهادة ما قد رأيتم خلقه ، والغيب ما غاب عنكم مما لم تروه . وتقدم القول في عالم الغيب في موضعين من تفسير هذه السورة مفصلا تفصيلا . والمعنى أن الذي خلق الخلق بالحق ، والذي قوله الحق في التكوين ، والذي له الملك وحده يوم ينفخ في الصور ويحشر الخلق - هو عالم الغيب والشهادة ، وهو الحكيم الذي يضع كل شيء في موضعه ، وهو الخبير بدقائق الأمور وخفاياها ، فلا يشذ عن علمه وحكمته شيء منها ، فلا يليق بعاقل أن يدعو غيره ولو بقصد التوسل والتقريب إليه زلفى ( فلا تدعوا مع الله أحدا ) ( 72 : 18 ) ( بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ) ( 6 : 41 ) ففي هذا التذييل تقرير لمضمون الآية ، وفذلكة للسياق الوارد في إنكار دعاء غير الله تعالى .