( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا ) هذه الآية معطوفة على ما قبلها مسوقة لبيان منة أو منن أخرى على أهل الحرم ، وهي ما تضمنه دعاء إبراهيم من جعل البلد آمنا في نفسه ، وهو غير ما سبقت به المنة من جعل البيت آمنا . وقد فسر الجلال ( أمنا ) بقوله : ذا أمن : مع أن المعنى ظاهر وهو أن يكون محفوظا من الأعداء الذين يقصدونه بالسوء ، وهو غير معنى كونه ذا أمن ، أي أن من يكون فيه يكون آمنا ممن يسطو عليه فيظلمه أو ينتقم منه . وقد استجاب الله دعاء إبراهيم في ذلك ، ومن تعدى على البيت لم يطل زمن تعديه بحيث يقال : إنه قد مر زمن طويل لم يكن البيت فيه آمنا ، بل لم ينجح أحد تعدى عليه لذاته ، وإنما كان التعدي القصير هو التعدي العارض على بعض من اعتصم فيه ( وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر ) فسر ( الجلال ) الرزق من الثمرات بنقل جبريل الطائف من حوران في بلاد الشام أو فلسطين إلى مكانه الآن في أرض الحجاز ، مع أن الكلام في البيت وبلده مكة لا في الطائف . ورزق أهل هذا البلد الأمين من الثمرات ظاهر معروف بالمشاهدة والاختبار المصدقين لما جاء به الكتاب في سورة القصص بقوله : ( أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء ) ( 28 : 57 ) فالثمرات تجبى وتجمع من حيث تكون وتساق إلى مكة ، ولا فرق في ذلك بين كونها من الطائف أو من الشام أو مصر أو الروم مثلا ، وكونها تجمع من أقطار متفرقة أظهر في صدق الآية وأدل على التسخير . وحديث نقل الطائف لا يصح ، ولكنهم ألصقوه بكتاب الله وجعلوه تفسيرا له وهو برئ منه وغير محتاج في صدقه إليه .
[ ص: 382 ] وقد خص إبراهيم بدعائه المؤمنين كما هو اللائق به ، ولكن الله واسع الرحمة وقد جعل رزق الدنيا عاما للمؤمن والكافر ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) ( 17 : 20 ) ولكن تمتيع الكافر محدود بهذا العمر القصير ، ومصيره في الآخرة إلى شر مصير ، وذلك جواب الله - تعالى - لإبراهيم : ( ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير قال ومن كفر فأمتعه قليلا ) أي وأرزق من كفر أيضا فأمتعه بهذا الرزق قليلا ، وهو مدة وجوده في الدنيا ثم أسوقه إلى عذاب النار سوقا اضطراريا لا يقصده هو ولا يعلم أن كفره ينتهي به إليه ، وذلك أن لجميع أعمال البشر الاختيارية غايات وآثارا اضطرارية تفضي وتنتهي إليها بطبيعتها بحسب نظام الأسباب والمسببات ، كما يفضي الإسراف في الشهوات أو التعب أو الراحة إلى بعض الأمراض في الدنيا . فالكفار والفساق مختارون في كفرهم وفسقهم ، فعقابهم عليها إنما هو عقاب على أعمال اختيارية ، وهو أن كفرهم بآيات الله سيسوقهم إلى عذاب الله بما أقام الله - تعالى - عليه الإنسان من السنن الحكيمة ، وأساسها أن علم الإنسان وأعماله النفسية والبدنية لها الأثر الذي يفضي به إلى سعادته أو شقائه اضطرارا ، ولما كانت هذه السنة بقضاء الله وتقديره صح أن يقال : إن الله قد اضطر الكافر إلى العذاب وألجأه إليه ، إذ جعل الأرواح المدنسة بالعقائد الفاسدة والأخلاق المذمومة محل سخطه ، وموضع انتقامه في الآخرة ، كما جعل أصحاب الأجساد القذرة عرضة للأمراض في الدنيا .
ولما كانت هذه العقائد والمعارف والأخلاق والأعمال كسبية ، وكان الإنسان متمكنا من اختيار الحق على الباطل والطيب على الخبيث ، وقد هداه الله إلى ذلك بما أعطاه من العقل ، وما نزله من الوحي ، صح أن يقال : إنه ظلم نفسه وعرضها للعذاب والشقاء بأعماله التي مبدؤها كسبي ، وأثرها ضروري .
وفي قوله - تعالى - : ( ومن كفر ) . . . إلخ إيجاز بالعطف على محذوف ، علم منه أنه - تعالى - استجاب دعاء إبراهيم في المؤمنين ، فجعل لهم هذا الخبر في الدنيا ، وأعد لهم ما هو أفضل منه في الآخرة .
وهو إيجاز لم يكن يعهد في غير القرآن ، جار على الأصل الذي تقدم بيانه في خطاب القرآن للعرب خاصة دون ما كان يخاطب به بني إسرائيل ، وإن كان كل ما في القرآن عبرة عامة لجميع المعتبرين ، كما تكرر عن الأستاذ الإمام .