ذكر الله - تعالى - العرب أولا بنعمته عليهم بهذا البيت ، أن جعله مثابة للناس وأمنا ، وبدعاء إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لبلد البيت واستجابة الله - تعالى - دعاءه إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من البلاد البعيدة فيتمتع أهله بها ، وهي نعم يعرفونها لا ينكرها أحد ، وانتقل منها إلى التذكير بالنعم المعنوية فذكر عهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود ؛ لينبههم بإضافة البيت إلى نفسه أنه لا يليق أن يعبد فيه غيره ، وبتطهيره لأجل الطواف والاعتكاف والصلاة أنه يجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة وعن سائر الأعمال الذميمة كطواف العريان ، وكانوا يفعلونه .
ثم ذكرهم بعد هذا بأن إبراهيم هو الذي بنى هذا البيت بمساعدة ابنه إسماعيل ، وذكر لهم من دعائهما هنالك ما يرشدهم إلى العبادة الصحيحة والدين الحق ، ويجذبهم إلى الاقتداء بذلك السلف الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به ، فإن قريشا كانت تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل بحق وتدعي أنها على ملة إبراهيم ، ولذلك كانت ترى أنها أهدى من الفرس والروم ، وسائر العرب تبع لقريش .
قوله - تعالى - : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) ظاهر في أنهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله - تعالى - في تلك البلاد الوثنية ، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله - تعالى - علينا ، وتفننوا في رواياتهم عن قدم البيت ، وعن حج آدم ومن بعده من الأنبياء إليه ، وعن ارتفاعه إلى السماء في وقت الطوفان ، ثم نزوله مرة أخرى ، وهذه الروايات يناقض أو يعارض بعضها بعضا ، فهي فاسدة في تناقضها وتعارضها ، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها ، وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن ، ولم يستح بعض الناس من إدخالها [ ص: 384 ] في تفسير القرآن وإلصاقها به وهو برئ منها . ومن ذلك زعمهم أن الكعبة نزلت من السماء في زمن آدم ، ووصفهم حج آدم إليها وتعارفه بحواء في عرفة ، بعد أن كانت قد ضلت عنه بعد هبوطهما من الجنة ، وحاولوا تأكيد ذلك بتزوير قبر لها في جدة . وزعمهم أنها هبطت مرة أخرى إلى الأرض بعد ارتفاعها بسبب الطوفان وحليت بالحجر الأسود ، وأن هذا الحجر كان ياقوتة بيضاء - وقيل : زمردة - من يواقيت الجنة أو زمردها ، وأنها كانت مودعة في باطن جبل أبي قبيس فتمخض الجبل فولدها ، وأن الحجر إنما اسود لملامسة النساء الحيض له ، وقيل : لاستلام المذنبين إياه ، وكل هذه الروايات خرافات إسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوهوا عليهم دينهم وينفروا أهل الكتاب منه .
( الأستاذ الإمام ) : لو كان أولئك القصاصون يعرفون الماس لقالوا : إن الحجر الأسود منه ؛ لأنه أبهج الجواهر منظرا وأكثرها بهاء ، وقد أراد هؤلاء أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه ، ولكنها إذا راقت للبله من العامة ، فإنها لا تروق لأهل العقل والعلم الذين يعلمون أن الشريف - هذا الضرب من الشرف المعنوي - هو ما شرفه الله - تعالى - ، فشرف هذا البيت إنما هو بتسمية الله - تعالى - إياه بيته ، وجعله موضعا لضروب من عبادته لا تكون في غيره كما تقدم ، لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار ، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع ، ولا بكونه من السماء ، ولا بأنه من عالم الضياء ، وكذلك ليس لمزية في أجسامهم ولا في ملابسهم ، وإنما هو لاصطفاء الله - تعالى - إياهم ، وتخصيصهم بالنبوة التي هي أمر معنوي ، وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة وأكثر نعمة منهم . شرف الأنبياء على غيرهم من البشر
وقد أفصح عن هذا المعنى الذي قرره الأستاذ الإمام أمير المؤمنين ومشيد دعائم الإسلام - رضي الله - تعالى - عنه - إذ قال عند استلام الحجر الأسود : ( ( عمر بن الخطاب ) ) رواه أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أنى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك ثم دنا فقبله والإمام أبو بكر بن أبي شيبة أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم من عدة طرق . وروى والنسائي ابن أبي شيبة في العلل عن والدارقطني عن رجل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف عند الحجر فقال : ( ( عيسى بن طلحة ) ) ثم قبله . ثم حج إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع أبو بكر فوقف عند الحجر ثم قال : ) ) وحديث إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك عمر يؤيد الرواية المرفوعة ، وإنما قدمناه لأنه أصح سندا ، وما روي من مراجعة علي لعمر في ذلك غير صحيح ، فلا يعول عليه ، والحديث يرشدنا إلى أن ، وإنما استلامه أمر تعبدي في معنى استقبال الحجر لا مزية له في ذاته فهو كسائر الحجارة الكعبة وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدده مكان ، ولا تحصره جهة من الجهات ، على أنه قد غرز في طبائع البشر تكريم البيوت والمعاهد ، والآثار والمشاهد التي تنسب للأحياء ، أو تضاف إلى العظماء :
[ ص: 385 ]
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديارا
وإنما يكون التعظيم والتكريم للديار ، في حال غيبة الساكن والديار ؛ لأن النفس إذا حرمت من المشاهدة التي تذكي نار الحب ، وتهيج الإحساس والشعور بلذة القرب ، تحاول أن تذكي تلك النار ، بالتعلل بالأطلال والآثار ، ولا يقال : ؟ فإن كل مشعر من تلك المشاعر قد خص بمزية تثير شعورا دينيا خاصا يليق به ، فلا يقال : لماذا كان الوقوف والاجتماع ، وتعارف أهل الآفاق والأصقاع ، مخصوصا لماذا خصص الحجر الأسود بالتقبيل بعرفة دون غيرها من البقاع ؟ ولهذه المشاعر والشعائر معان وأسرار أخرى عند بعض الخواص ، لا ينبغي شرحها لعامة الناس .
وقد جعل القصاص تلك الأحاديث والآثار ، وهذه المعاني والأسرار ، وجعلوا مزية البيت الحرام ومشاعره وحجره المكرم محصورة في مخالفتها لسائر الحجارة ، وكون أصلها من جواهر الجنة التي هي من عالم الغيب ، ولو كان ذلك صحيحا لبقيت حجارتها كما كانت عندما نزلت من الجنة بزعمهم ، وقد راجت بضاعتهم المزجاة عند أهل العلم والعقل ، عند من لا يعرف من الدين إلا هذه الرسوم الظاهرة ، ومنها الكعبة الحريرية المزركشة فإنها عند عامتنا في هذه الأزمنة من أعظم شعائر الدين ، وإن حرم حضور احتفالها أو رؤيتها بعض علماء الأزهر المتأخرين ( كسوة كالباجوري ) وليس هذا التحريم لذاتها فإنها مشروعة ، بل لما في الاحتفال بها من البدع ، وما عليه من اعتقاد البركة فيها ، وفي جملها الذي يقبل مقوده الأمراء والوزراء ورؤساء العلماء الرسميين المدهنين لهم ، وهكذا كل واحد يفهم الدين ، ويأخذ من كتب الأولين والآخرين ، ما يناسب استعداد عقله ، ويحسن في نظر جيرانه وأهله ، حتى يخرج المسلمون من هذه الفوضى في الدين والعلم ، ويدير شئونهم الاجتماعية أهل الحكمة والفهم ، فيضعون لهم نظاما يتبع في تعميم التربية والتعليم ( ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) ( 3 : 101 ) .
ومن مباحث اللفظ في الجملة : أن القواعد جمع قاعدة ، وهي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من الساقات ، ورفعها : إعلاء البناء عليها أو إعلاؤها نفسها على الخلاف ، و ( من البيت ) قال ( الجلال ) : إنه متعلق بيرفع ، وهذا إنما يصح إذا أريد بـ ( البيت ) العرصة أو البقعة التي وقع فيها البناء ، والأكثرون على أن ( من ) للبيان : وعليه يكون البيت بمعنى نفس البناء والجدران ، وهناك قول ثالث : وهو أن ( من ) للتبعيض بناء على أن ( البيت ) مجموع العرصة والبناء .
[ ص: 386 ] قال الأستاذ الإمام : وفي الكلام نكتة لطيفة وهي أن ذكر القواعد أولا ينبه الذهن ويحركه إلى طلب معرفة القواعد ما هي ؟ وقواعد أي شيء هي ؟ فإذا جاء البيان بعد ذلك كان أحسن وقعا في النفس ، وأشد تمكنا في الذهن ، وأما النكتة في تأخير ذكر إسماعيل عن ذكر المفعول ، مع أن الظاهر أن يقال : وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت : فهي الإلماع إلى كون إبراهيم ، وإنما كان المأمور من الله ببناء البيت هو إسماعيل مساعدا له وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة .
وقوله - تعالى - : ( ربنا تقبل منا ) . . . إلخ حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عند البناء وهو أنهما كانا يقولان ذلك ، حذف القول للإيجاز الذي عهد من القرآن في خطاب العرب كما تقدم ، وجملة القول بيان لحالهما وقتئذ ، وتقبل الله العمل : قبله ورضي به ( إنك أنت السميع ) لأقوالنا ( العليم ) بأعمالنا وبنيتنا فيها .