الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 383 ] ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم )

                          ذكر الله - تعالى - العرب أولا بنعمته عليهم بهذا البيت ، أن جعله مثابة للناس وأمنا ، وبدعاء إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لبلد البيت واستجابة الله - تعالى - دعاءه إذ جعله بلدا آمنا تجبى إليه الثمرات من البلاد البعيدة فيتمتع أهله بها ، وهي نعم يعرفونها لا ينكرها أحد ، وانتقل منها إلى التذكير بالنعم المعنوية فذكر عهده إلى إبراهيم وإسماعيل بأن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود ؛ لينبههم بإضافة البيت إلى نفسه أنه لا يليق أن يعبد فيه غيره ، وبتطهيره لأجل الطواف والاعتكاف والصلاة أنه يجب تنزيهه عن الأصنام والتماثيل وعبادتها الفاسدة وعن سائر الأعمال الذميمة كطواف العريان ، وكانوا يفعلونه .

                          ثم ذكرهم بعد هذا بأن إبراهيم هو الذي بنى هذا البيت بمساعدة ابنه إسماعيل ، وذكر لهم من دعائهما هنالك ما يرشدهم إلى العبادة الصحيحة والدين الحق ، ويجذبهم إلى الاقتداء بذلك السلف الصالح الذي ينتمون إليه ويفاخرون به ، فإن قريشا كانت تنتسب إلى إبراهيم وإسماعيل بحق وتدعي أنها على ملة إبراهيم ، ولذلك كانت ترى أنها أهدى من الفرس والروم ، وسائر العرب تبع لقريش .

                          قوله - تعالى - : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) ظاهر في أنهما هما اللذان بنيا هذا البيت لعبادة الله - تعالى - في تلك البلاد الوثنية ، ولكن القصاصين ومن تبعهم من المفسرين جاءونا من ذلك بغير ما قصه الله - تعالى - علينا ، وتفننوا في رواياتهم عن قدم البيت ، وعن حج آدم ومن بعده من الأنبياء إليه ، وعن ارتفاعه إلى السماء في وقت الطوفان ، ثم نزوله مرة أخرى ، وهذه الروايات يناقض أو يعارض بعضها بعضا ، فهي فاسدة في تناقضها وتعارضها ، وفاسدة في عدم صحة أسانيدها ، وفاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن ، ولم يستح بعض الناس من إدخالها [ ص: 384 ] في تفسير القرآن وإلصاقها به وهو برئ منها . ومن ذلك زعمهم أن الكعبة نزلت من السماء في زمن آدم ، ووصفهم حج آدم إليها وتعارفه بحواء في عرفة ، بعد أن كانت قد ضلت عنه بعد هبوطهما من الجنة ، وحاولوا تأكيد ذلك بتزوير قبر لها في جدة . وزعمهم أنها هبطت مرة أخرى إلى الأرض بعد ارتفاعها بسبب الطوفان وحليت بالحجر الأسود ، وأن هذا الحجر كان ياقوتة بيضاء - وقيل : زمردة - من يواقيت الجنة أو زمردها ، وأنها كانت مودعة في باطن جبل أبي قبيس فتمخض الجبل فولدها ، وأن الحجر إنما اسود لملامسة النساء الحيض له ، وقيل : لاستلام المذنبين إياه ، وكل هذه الروايات خرافات إسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوهوا عليهم دينهم وينفروا أهل الكتاب منه .

                          ( الأستاذ الإمام ) : لو كان أولئك القصاصون يعرفون الماس لقالوا : إن الحجر الأسود منه ؛ لأنه أبهج الجواهر منظرا وأكثرها بهاء ، وقد أراد هؤلاء أن يزينوا الدين ويرقشوه برواياتهم هذه ، ولكنها إذا راقت للبله من العامة ، فإنها لا تروق لأهل العقل والعلم الذين يعلمون أن الشريف - هذا الضرب من الشرف المعنوي - هو ما شرفه الله - تعالى - ، فشرف هذا البيت إنما هو بتسمية الله - تعالى - إياه بيته ، وجعله موضعا لضروب من عبادته لا تكون في غيره كما تقدم ، لا بكون أحجاره تفضل سائر الأحجار ، ولا بكون موقعه يفضل سائر المواقع ، ولا بكونه من السماء ، ولا بأنه من عالم الضياء ، وكذلك شرف الأنبياء على غيرهم من البشر ليس لمزية في أجسامهم ولا في ملابسهم ، وإنما هو لاصطفاء الله - تعالى - إياهم ، وتخصيصهم بالنبوة التي هي أمر معنوي ، وقد كان أهل الدنيا أحسن زينة وأكثر نعمة منهم .

                          وقد أفصح عن هذا المعنى الذي قرره الأستاذ الإمام أمير المؤمنين ومشيد دعائم الإسلام عمر بن الخطاب - رضي الله - تعالى - عنه - إذ قال عند استلام الحجر الأسود : ( ( أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أنى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبلك ما قبلتك ثم دنا فقبله ) ) رواه أبو بكر بن أبي شيبة والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم من عدة طرق . وروى ابن أبي شيبة والدارقطني في العلل عن عيسى بن طلحة عن رجل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف عند الحجر فقال : ( ( إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ) ) ثم قبله . ثم حج أبو بكر فوقف عند الحجر ثم قال : إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك ) ) وحديث عمر يؤيد الرواية المرفوعة ، وإنما قدمناه لأنه أصح سندا ، وما روي من مراجعة علي لعمر في ذلك غير صحيح ، فلا يعول عليه ، والحديث يرشدنا إلى أن الحجر لا مزية له في ذاته فهو كسائر الحجارة ، وإنما استلامه أمر تعبدي في معنى استقبال الكعبة وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدده مكان ، ولا تحصره جهة من الجهات ، على أنه قد غرز في طبائع البشر تكريم البيوت والمعاهد ، والآثار والمشاهد التي تنسب للأحياء ، أو تضاف إلى العظماء :

                          [ ص: 385 ]

                          أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

                              وما حب الديار شغفن قلبي
                          ولكن حب من سكن الديارا



                          وإنما يكون التعظيم والتكريم للديار ، في حال غيبة الساكن والديار ؛ لأن النفس إذا حرمت من المشاهدة التي تذكي نار الحب ، وتهيج الإحساس والشعور بلذة القرب ، تحاول أن تذكي تلك النار ، بالتعلل بالأطلال والآثار ، ولا يقال : لماذا خصص الحجر الأسود بالتقبيل ؟ فإن كل مشعر من تلك المشاعر قد خص بمزية تثير شعورا دينيا خاصا يليق به ، فلا يقال : لماذا كان الوقوف والاجتماع ، وتعارف أهل الآفاق والأصقاع ، مخصوصا بعرفة دون غيرها من البقاع ؟ ولهذه المشاعر والشعائر معان وأسرار أخرى عند بعض الخواص ، لا ينبغي شرحها لعامة الناس .

                          وقد جعل القصاص تلك الأحاديث والآثار ، وهذه المعاني والأسرار ، وجعلوا مزية البيت الحرام ومشاعره وحجره المكرم محصورة في مخالفتها لسائر الحجارة ، وكون أصلها من جواهر الجنة التي هي من عالم الغيب ، ولو كان ذلك صحيحا لبقيت حجارتها كما كانت عندما نزلت من الجنة بزعمهم ، وقد راجت بضاعتهم المزجاة عند أهل العلم والعقل ، عند من لا يعرف من الدين إلا هذه الرسوم الظاهرة ، ومنها كسوة الكعبة الحريرية المزركشة فإنها عند عامتنا في هذه الأزمنة من أعظم شعائر الدين ، وإن حرم حضور احتفالها أو رؤيتها بعض علماء الأزهر المتأخرين ( كالباجوري ) وليس هذا التحريم لذاتها فإنها مشروعة ، بل لما في الاحتفال بها من البدع ، وما عليه من اعتقاد البركة فيها ، وفي جملها الذي يقبل مقوده الأمراء والوزراء ورؤساء العلماء الرسميين المدهنين لهم ، وهكذا كل واحد يفهم الدين ، ويأخذ من كتب الأولين والآخرين ، ما يناسب استعداد عقله ، ويحسن في نظر جيرانه وأهله ، حتى يخرج المسلمون من هذه الفوضى في الدين والعلم ، ويدير شئونهم الاجتماعية أهل الحكمة والفهم ، فيضعون لهم نظاما يتبع في تعميم التربية والتعليم ( ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم ) ( 3 : 101 ) .

                          ومن مباحث اللفظ في الجملة : أن القواعد جمع قاعدة ، وهي ما يقعد ويقوم عليه البناء من الأساس أو من الساقات ، ورفعها : إعلاء البناء عليها أو إعلاؤها نفسها على الخلاف ، و ( من البيت ) قال ( الجلال ) : إنه متعلق بيرفع ، وهذا إنما يصح إذا أريد بـ ( البيت ) العرصة أو البقعة التي وقع فيها البناء ، والأكثرون على أن ( من ) للبيان : وعليه يكون البيت بمعنى نفس البناء والجدران ، وهناك قول ثالث : وهو أن ( من ) للتبعيض بناء على أن ( البيت ) مجموع العرصة والبناء .

                          [ ص: 386 ] قال الأستاذ الإمام : وفي الكلام نكتة لطيفة وهي أن ذكر القواعد أولا ينبه الذهن ويحركه إلى طلب معرفة القواعد ما هي ؟ وقواعد أي شيء هي ؟ فإذا جاء البيان بعد ذلك كان أحسن وقعا في النفس ، وأشد تمكنا في الذهن ، وأما النكتة في تأخير ذكر إسماعيل عن ذكر المفعول ، مع أن الظاهر أن يقال : وإذ يرفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت : فهي الإلماع إلى كون المأمور من الله ببناء البيت هو إبراهيم ، وإنما كان إسماعيل مساعدا له وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة .

                          وقوله - تعالى - : ( ربنا تقبل منا ) . . . إلخ حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عند البناء وهو أنهما كانا يقولان ذلك ، حذف القول للإيجاز الذي عهد من القرآن في خطاب العرب كما تقدم ، وجملة القول بيان لحالهما وقتئذ ، وتقبل الله العمل : قبله ورضي به ( إنك أنت السميع ) لأقوالنا ( العليم ) بأعمالنا وبنيتنا فيها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية