هذه الآيات الثلاث في مسألة النفقة في القتال ، وهي الجهاد المفروض في المال ، ومثلها سائر النفقات ، في حكم ما يعتورها من الرياء والإخلاص ، روى [ ص: 416 ] عن ابن جرير الطبري ابن عباس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما دعا الجد بن قيس إلى جهاد الروم قال : إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ولكن أعينك بمالي ، ففيه نزل قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم وقد ضعف ( ) هذا القول بالتعبير عنه بـ " قيل " والحق أن الآية عامة تشمل هذا وغيره ، وأنها نزلت مع غيرها من هذا السياق في أثناء السفر لا عقب قول الطبري جد بن قيس ما قال قبله ، والمعنى : قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين : أنفقوا ما شئتم من أموالكم في الجهاد أو غيره مما أمر الله به في حال الطوع للتقية ، أو الكره خوف العقوبة ، فمهما تنفقوا في الحالتين لن يتقبل الله منكم شيئا منه ، ما دمتم على شك مما جاءكم به الرسول من أمر الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة . وقيل : معناه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يقبل منهم ما ينفقونه ، ولكن هذا لا يصح على إطلاقه في جميعهم ؛ لأن مقتضى إجراء أحكام الشريعة عليهم تقتضي وجوب أخذ زكاتهم ونفقاتهم ، إلا أن يوجد مانع خاص في شأن بعضهم ، كما سيأتي في تفسيره : ومنهم من عاهد الله ( 75 ) الآيات .
قال الإمام وتبعه غيره : وخرج قوله : ابن جرير أنفقوا طوعا أو كرها مخرج الأمر ومعناه الخبر . والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها " إن " التي تأتي بمعنى الجزاء ، كما قال جل ثناؤه : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم فهو في لفظ الأمر ومعناه الخبر ، ومنه قول الشاعر :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة لدينا ولا مقلية إن تقلت
فكذلك قول : أنفقوا طوعا أو كرها إنما معناه : إن تنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم اهـ . إنكم كنتم قوما فاسقين هذا تعليل لعدم قبول نفقاتهم ، ومعناه : أن إنفاقكم طائعين أو مكرهين سيان في عدم القبول ؛ لأنكم كنتم قوما فاسقين و إنما يتقبل الله من المتقين ( 5 : 27 ) والمراد بالفسوق : الخروج من دائرة الإيمان ، الذي هو شرط لقبول الأعمال مع الإخلاص ، وهو كثير الاستعمال في القرآن - وتخصيصه بالمعاصي من اصطلاح الفقهاء ، فليعتبر بهذا منافقو هذا الزمان ، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ويعلنون أمرها في صحف الأخبار ؛ ليشتهروا بها في الأقطار . ثم بين تعالى ما في هذا التعليل من الإجمال فقال : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله أي : وما منعهم قبول نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله وصفاته على الوجه الحق ، ومنها الحكمة والتنزه عن العبث في خلق الخلق وهدايتهم وجزائهم على أعمالهم ، وكفرهم برسالة رسوله ، وما جاء به من البينات والهدى . قرأ الجمهور : ( تقبل ) بالمثناة الفوقية وقرأها حمزة بالتحتية ، وتأنيث النفقات لفظي لا حقيقي فيجوز تذكير فعله والكسائي ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون [ ص: 417 ] ففعلهم لهذين الركنين من أركان الإسلام ، اللذين هما أظهر آيات الإيمان ، لا يدل على صحة إيمانهم ؛ لأنهم يأتونهما رياء وتقية لا إيمانا بوجوبهما ، ولا قصدا إلى تكميل أنفسهم بما شرعهما الله لأجله ، واحتسابا لأجرهما عنده أما الصلاة فلا يأتونها إلا وهم كسالى أي : في حال الكسل والتثاقل منها ، فلا تنشط لها أبدانهم ، ولا تنشرح لها صدورهم ، زاد في سورة النساء : يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ( 4 : 142 ) وقد أمر الله المؤمنين بإقامة الصلاة لا بمجرد الإتيان بصورتها ، ووصفهم بالخشوع فيها ، وهو ينافي الكسل عند القيام إليها ، فعلى كل مسلم أن يحاسب نفسه ؛ ليعلم هل صلاته صلاة المؤمنين ، أم صلاة المنافقين ؟ .وأما وغيرها فلا يؤتونه إلا وهم كارهون له ، غير طيبة أنفسهم به ؛ لأنهم يعدون هذه النفقات مغارم مضروبة عليهم ، تقوم بها مرافق المؤمنين وهم يعلمون من أنفسهم أنهم ليسوا منهم ، فلا يرون لهم بها نفعا في الدنيا ، ولا يؤمنون بنفعها لهم في الآخرة ، وبما قررناه يندفع إيراد بعضهم أن الكفر وحده كاف في عدم قبول نفقاتهم ، فأي حاجة إلى وصفهم بالكسل عند إتيان الصلاة ، وكره أداء الزكاة وغيرها من نفقات البر ؟ وتمحل الجواب عنه على مذهب الإنفاق في مصالح الجهاد المعتزلة أو الأشعرية ؟ فإن وصفهما بما ذكر تقرير لكفرهم ، ودفع للشبهة التي ترد عليه بالصلاة والزكاة كما بيناه .
قال : ( فإن قلت ) الكراهية خلاف الطواعية ، وقد جعلهم الله طائعين في قوله : طوعا ثم وصفهم بأنهم الزمخشري ولا ينفقون إلا وهم كارهون ( قلت ) المراد بطوعهم أنهم يبذلونه من غير إلزام من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن رؤسائهم ، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار ، لا عن رغبة واختيار اهـ . على أنه فسر الكره في الآية الأولى بالإكراه .
والراجح عندي ما قدمته من أن المراد بطوعهم ما كان بقصد التقية لإخفاء كفرهم ، وهو يقتضي كرهه في قلوبهم وعدم إخلاصهم فيه ، وهو ما أثبته لهم في الآية الثانية بصيغة الحصر ، وحاصله أن المراد به طواعية المصلحة أو الطبع ، لا طاعة الشرع ، وقد يقال : إن الترديد بين الطوع والكره في مثل هذا التعبير لا يقتضي إثبات وقوع كل منهما ، وإنما المراد منه أنه مهما يكن الواقع فهي غير مقبولة ؛ لوجود الكفر المانع من القبول ، ومن أطاع الله ورسوله فيما يسهل عليه وعصاهما فيما يشق عليه فلا يعد مذعنا للأمر والنهي ؛ لأن حكم الله ، ومن لم يكن مذعنا لا يكون مؤمنا أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب [ ص: 418 ] ( 2 : 85 ) وقد بايع المؤمنون الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الطاعة في المنشط والمكره .
ولما كان أولئك المؤمنون من أولي الطول والسعة في الدنيا كما سيأتي في قوله : استأذنك أولو الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ( 86 ) وكان ترف الغني وطغيانه أقوى أسباب إعراضهم عن آيات الله ، والتأمل في محاسن الإسلام - بين الله تعالى للمؤمنين سوء عاقبتهم فيه فقال : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ، الإعجاب بالشيء أن تسر به سرور راض به فتعجب من حسنه كما قال ، والخطاب للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو لكل من سمع القول أو بلغه ، والكلام مرتب على ما قبله ، كأنه يقول : إذا كان هذا شأنهم في مظنة ما ينتفعون به من أموالهم ، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ، فلا تعجبك أيها الرسول أو أيها السامع أموالهم ولا أولادهم التي هي في نفسها من أكبر النعم وأجلها ، ولا تظن أنهم وقد حرموا من ثوابها في الآخرة قد صفا لهم نعيمها في الدنيا ، وعلل النهي بقوله : الزمخشري إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا بما يعرض لهم فيها من المنغصات والحسرات ، أما الأموال فإنهم يتعبون في جمعها ، ويحرصون على حفظها ، ويشق عليهم ما ينفقونه منها من زكاة وإعانة على قتال ، وإنفاق على قريب من المؤمنين ، وأشق منه إعتقادهم أنهم يتركونها بعدهم لمصالح المسلمين ؛ لأن ورثتهم منهم في الغالب حتى زعيمهم الأكبر عبد الله بن أبي ( لعنه الله ) كما سيأتي في الآيات التي نزلت في خبر موته على كفره ، وأعيدت هذه الآية فيها . وأما الأولاد فلأنهم يرونهم قد نشؤوا في الإسلام ، واطمأنت به قلوبهم ، وأنهم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ، وكل هذه حسرات في قلوبهم . ولقد كان ثعلبة الذي عاهد الله لئن آتاه من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين ، ثم نقض عهده وأخلف الله ما وعده بعد أن أغناه - أشدهم حسرة بامتناع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخلفائه عن قبول زكاته وتزهق أنفسهم وهم كافرون فيعذبون بها في الآخرة أشد مما عذبوا بها في الدنيا بموتهم على كفرهم المحبط لعملهم . زهوق الأنفس : خروجها من الأجساد . وقال بعض المفسرين : هو الخروج بصعوبة . وفي التنزيل : وقل جاء الحق وزهق الباطل ( 17 : 81 ) أي هلك واضمحل ، وجعله في الأساس مجازا ، والظاهر أنه من زهق السهم إذا سقط دون الهدف ، وورد زهقت الناقة بمعنى أسرعت ، فالتعبير بالزهوق هنا إما من الأول أي : الهلاك وهو الأظهر ، وإما من الإسراع للإشارة إلى أنه لم يبق من أعمارهم إلا القليل حقيقة ، أو من قبيل قوله تعالى فيهم : قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا ( 33 : 16 ) .