أما قوله - عز وجل - : إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فهو جواب الشبهة الثانية . وتقريره : أن البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس ، بناه إبراهيم وولده إسماعيل - عليهما السلام - لأجل العبادة خاصة ، ثم بنى المسجد الأقصى ببيت المقدس بعده بعدة قرون ، بناه سليمان بن داود - عليهما السلام - ، فصح أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - على ملة إبراهيم ، ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وولده إسماعيل . وهذا هو المعنى الظاهر المتبادر من الآية الذي قرره الأستاذ الإمام ، وهو كاف في إبطال شبهة اليهود على النبي - عليه الصلاة والسلام - من غير حاجة إلى البحث في هذه الأولية هل هي أولية الشرف أم أولية الزمان أقول : والمتبادر أنها أولية الزمان بالنسبة إلى بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء ، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يعرف من تاريخهم وما يؤثر عنهم ، وهذا يستلزم الأولية في الشرف .
وذهب بعض المفسرين إلى أن الأولية زمانية بالنسبة إلى وضع البيوت مطلقا . فقالوا : إن الملائكة بنته قبل خلق آدم وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين عاما . قال الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - : إذا صح الحديث فلا شيء في العقل يحيله ، ولكن الآية لا تدل عليه ولا يتوقف الاحتجاج بها على ثبوته ، وبيت المقدس المعروف الذي ينصرف إليه الإطلاق قد بناه سليمان بالاتفاق ، وذلك قبل ميلاد المسيح بنحو 800 سنة - كذا قال رحمه الله تعالى في الدرس - والمعروف في كتب القوم أنه تم بناؤه سنة 1005 قبل الميلاد ، والحديث الذي ذكر آنفا في بناء المسجدين رواه الشيخان من حديث أبي ذر بلفظ الوضع لا البناء . قال : المسجد الحرام ثم بيت المقدس ، فقيل : كم بينهما ؟ فقال : أربعون سنة وأجابوا عما فيه من الإشكال بوجوه منها : أن الوضع غير البناء وهو ضعيف ; لأنه سماه بيتا ولو جعل المكان مسجدا ولم يبن فيه لما سمي بيتا بل مسجدا أو قبلة ، ومنها : أن ذلك مبني على القول بأن سئل رسول الله [ ص: 7 ] - صلى الله عليه وسلم - عن أول بيت وضع للناس فقال : إبراهيم هو الذي بنى أول مسجد للعبادة في أرض بيت المقدس ، وذلك معقول وإن لم يكن عندنا فيه نص صحيح . وقال ابن القيم : إن الذي أسس بيت المقدس يعقوب وإنما كان سليمان مجددا له . هذا وإن أخبار التاريخ ليست مما بلغ على أنه دين يتبع ، والموضوعات المروية في بناء الكعبة كثيرة ولا حاجة إلى إضاعة الوقت في ذكرها وبيان وضعها .
أما قوله - تعالى - في البيت : مباركا وهدى للعالمين فهو بيان لحاله الحسنة الحسية وحاله الشريفة المعنوية ، أما الأولى : فهي ما أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شيء على كونه بواد غير ذي زرع ، فترى الأقوات والثمار في مكة أكثر وأجود وأقل ثمنا منها في مثل مصر وكثير من بلاد الشام ، وأما الثانية : فهي هوى أفئدة الناس إليه وإتيانه للحج والعمرة مشاة وركبانا من كل فج ، وتولية وجوههم شطره في الصلاة ، ولعله لا تمر ساعة ولا دقيقة من ليل أو نهار وليس فيها أناس متوجهون إلى ذلك البيت الحرام يصلون . فأي هداية للعالمين أظهر من هذه الهداية ؟ تلك دعوة إبراهيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون [ 14 : 37 ] وقد أشير إلى الوصفين في قوله - تعالى - حكاية عن المشركين : وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون [ 28 : 57 ] وقال بعضهم : إن مباركا يشمل البركات الحسية والمعنوية ، وما اخترناه هو المتبادر .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن " بكة " اسم لمكة كما روي عن مجاهد ، قيل : وعليه الأكثرون ، وجعلوه من إبدال الميم باء ، وهو كثير في كلامهم ، كسمد رأسه وسبده ، وضربة لازم وضربة لازب ، وراتم وراتب ، ونميط ونبيط وقيل : بكة اسم المسجد نفسه ، أو حيث الطواف من التباك ، أي الازدحام . وقيل : هو اسم بطن مكة حيث الحرم .
فيه آيات بينات مقام إبراهيم أي فيه دلائل أو علامات ظاهرة لا تخفى على أحد ، أحدها أو منها : مقام إبراهيم ، أي موضع قيامه فيه للصلاة والعبادة ، تعرف ذلك العرب بالنقل المتواتر . فأي دليل أبين من هذا على كون هذا البيت أول بيت من بيوت العبادة الصحيحة المعروفة في ذلك العهد ، وضع ليعبد الناس فيه ربهم ؟ وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم بجعل النبوة والملك فيهم لا يعرف لنبي قبله أثر ولا يحفظ له نسب .
[ ص: 8 ] وقوله : ومن دخله كان آمنا آية ثانية بينة لا يمتري فيها أحد ، وهي اتفاق قبائل العرب كلها على احترام هذا البيت وتعظيمه لنسبته إلى الله ، حتى إن من دخله يأمن على نفسه لا من الاعتداء عليه وإيذائه فقط بل يأمن أن يثأر منه من سفك هو دماءهم واستباح حرماتهم ما دام فيه . مضى على هذا عمل الجاهلية على اختلافها في المنازع والأهواء والمعبودات ، وكثرة ما بينهما من الأحقاد والأضغان ، وأقره الإسلام .
ويرد على إقرار الإسلام لحرمة البيت فتح مكة بالسيف ، وأجيب عنه : بأنها حلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة من نهار ولم تحل لأحد قبله ولن تحل لأحد بعده ، كما ورد في الحديث ، وذلك لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه لما وضع له . وأقول : إن حرمة مكة كلها وما يتبعها من ضواحيها وحلها للنبي لم يستحل البيت ساعة من نهار أمر زائد على ما نحن فيه ، وهو أمن من دخل البيت ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستحل البيت ساعة ولا بعض ساعة ، وإنما كان مناديه ينادي بأمره من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن ولما أخبر أبو سفيان النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول حامل لواء سعد بن عبادة الأنصار له في الطريق : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الكعبة ، قال - صلى الله عليه وسلم - : كذب سعد ، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ، ويوم تكسى فيه الكعبة ( راجع السير ) .
وأما فعل الحجاج - أخزاه الله - فقد قال الأستاذ الإمام : إنه كان من الشذوذ الذي لا ينافي الاتفاق على احترام البيت وتعظيمه وتأمين من دخله ، وهذا الجواب مبني على أن أمن من دخل البيت ليس معناه أن البشر يعجزون عن الإيقاع به عجزا طبيعيا على سبيل خرق العادة ، وإنما معناه أنه - تعالى - ألهمهم احترامه لاعتقادهم نسبته إليه - عز وجل - ، وحرم الإلحاد والاعتداء فيه . ولم يكن الحجاج وجنده يعتقدون حل ما فعلوا من رمي الكعبة بالمنجنيق ، ولكنها السياسة تحمل صاحبها على مخالفة الاعتقاد ، وتوقعه في الظلم والإلحاد ، وإن ما يفعل الآن في الحرم من الظلم والإلحاد المستمر لم يسبق له نظير في جاهلية ولا إسلام . ولا ضرورة ملجئة إليه ، وإنما هي السياسة السوءى قضت بتنفير الناس من أمراء مكة وشرفائها وإبعاد عقلاء المسلمين عنها ، حتى لا يكون للمسلمين فيها قوة في الدين ، ولا في العلم والرأي ! ! وماذا يكون من ضرر هذه القوة ؟ يوسوس لهم شيطان السياسة أن عمران الحجاز وثقة الناس بأمرائه وشرفائه ، وأمن العقلاء والسروات فيه ربما يكون سببا في إنشاء خلافة عربية فيه . إن كثيرا من أمراء المسلمين ونابغيهم يعلمون أن دون أدائهم لفريضة الحج عقبات سياسية لا يسهل اقتحامها ، وقد جاء في صحف الأخبار أن أمير مصر استأذن السلطان في حج والدته وبعض أمراء أسرته فلم يأذن . وقد كان الأستاذ الإمام يعتقد اعتقادا جازما فيه أنه إذا حج [ ص: 9 ] يلقي بيديه إلى التهلكة ، وأنه لا أمان له في الحرم الذي كان يرى الجاهلي فيه قاتل أبيه فلا يعرض له بسوء . وإن كاتب هذه السطور يعتقد مثل هذا الاعتقاد ، فنسأل الله - تعالى - أن يحقق لنا ثانية مضمون قوله : ومن دخله كان آمنا لنمتثل ما فرضه علينا من حج هذا البيت - كما يأتي في تتمة الآية - فلا نلجأ إلى تأويل الأمان بمثل ما أوله به من قال : إن المراد به الأمن من العذاب يوم القيامة . وقد رد الأستاذ الإمام هذا التأويل وقال ما معناه : إنه هدم للدين كله ، فإن الأمن هناك إنما يكون لأهل التوحيد الخالص والعمل الصالح ، الذين أقاموا الدين في الدنيا كما أمر الله - تعالى - ، وما دخول البيت إلا بعض أعمال الإيمان ، إذا أخلص صاحبه فيه . أقول : ولا تنس في هذا المقام مثل قوله - تعالى - : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 : 82 ] وما رووه في ذلك من الآثار لا ينافي المتبادر المختار .
وما أظن أن ذلك يصح عن الإمام جعفر الصادق كما قيل .