- وهو بكسر الحاء - وبه قرأ أما الحج فمعناه في أصل اللغة القصد حمزة والكسائي وحفص عن عاصم - وفتحها - وبه قرأ الباقون . وقيل : الفتح لغة الحجاز والكسر لغة نجد .
وقد تقدم تفصيل أعماله في تفسير آيات سورة البقرة . وأما : فهي عبارة عن القدرة على الوصول إليه ، وهي تختلف باختلاف الناس في أنفسهم وفي بعدهم عن البيت وقربهم منه ، وكل مكلف أعلم بنفسه - وإن كان عاميا - من غيره وإن كان عالما نحريرا ، وما زاد الناس اختلاف العلماء في تفسير الاستطاعة إلا بعدا عن حقيقتها الواضحة من الآية أتم الوضوح ; إذ قال بعضهم : إن الاستطاعة صحة البدن والقدرة على المشي ، وقال بعضهم : إنها القدرة على الزاد والراحلة ، واشترطوا فيها أمن الطريق ولم يشترطوا الأمن في استطاعة السبيل أرض الحرم ، لأنها كانت [ ص: 10 ] آمنة قطعا ، وأما في هذا الزمان فما كل أحد يأمن فيها ولا سيما إذا كان متهما بالاشتغال بالسياسة .
وكيف وقد ألقي بعض علمائها في ظلمة السجن مكبلا بالسلاسل والأغلال ، ولا ذنب له إلا أنه ألف كتابا أيد فيه التوحيد وبين فساد ما طرأ على الناس من نزعات الوثنية التي يعبرون عنها بالتوسل بالأولياء ؟ فيا ليت شعري لو كان مثل الذي كان ينكر كرامات الأولياء حيا ، أكان يأمن على نفسه إذا أراد الحج ، وهو المعدود في عصر العلم من أئمة علماء السنة في أصول الدين ؟ وقل مثل هذا في الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني الذي كان يقول في الأرواح بمثل ما يقول جمهور الإمام أبي بكر الباقلاني علماء أوربا اليوم من ماديين وغيرهم ، دع الفرق التي وسمت بالابتداع كالمعتزلة والخوارج والشيعة ، ولم يكن أهل السنة يكفرون أحدا منهم ولا يعاقبونه على مخالفة الجمهور في بعض الآراء أيام كان قرب جمهور المسلمين من العلم والدين كبعدهم عنه اليوم .
وقال الأستاذ الإمام في قوله - تعالى - : من استطاع إليه سبيلا إنه بيان لموقع الإيجاب ومحله ، وإعلام بأن الفرضية موجهة أولا وبالذات إلى هذا العمل ، ولكن الله رحم من لا يستطيع إليه سبيلا ، والاستطاعة تختلف باختلاف الأشخاص ولم يزد على ذلك .
وقوله - تعالى - : ومن كفر فإن الله غني عن العالمين تأكيد لما سبق ووعيد على جحوده ، وبيان لتنزيه الله - تعالى - بإزالة ما عساه يسبق إلى أوهام الضعفاء عند سماع نسبة البيت إلى الله ، والعلم بفرضه على الناس أن يحجوه من كونه محتاجا إلى ذلك . فالمراد بالكفر : جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة الصحيحة بعد إقامة الحجج على ذلك ، وعدم الإذعان لما فرض الله من حجه والتوجه إليه بالعبادة . هذا هو المتبادر ، وحمله بعضهم على الكفر مطلقا على أنه كلام مستقل لا متمم لما قبله ، وهو بعيد جدا ، وبعضهم على ترك الحج ، وهو بعيد أيضا وإن دعموه بحديث مرفوعا : أبي هريرة رواه من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا . وحديث ابن عدي أبي أمامة عند الدارمي والبيهقي : ورواه غيرهم باختلاف في اللفظ . والروايات كلها ضعيفة إلا ما قيل في رواية موقوفة ، بل عده من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا من الموضوعات ، واعترض عليه لكثرة طرقه ، وأمثل طرقه المرفوعة ما روي عن ابن الجوزي علي - كرم الله وجهه - بلفظ : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا الآية . رواه من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ; وذلك لأن الله - تعالى - قال في كتابه : [ ص: 11 ] الترمذي ، وقال : غريب في إسناده مقال ، والحارث يضعف . وهلال بن عبد الله الراوي له عن أبي إسحاق مجهول . وقد قال بعضهم : إن تعدد طرق الحديث ترتقي به إلى درجة الحسن لغيره كما يقولون في مثله ، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي : لا يصح في هذا الباب شيء ; إذ لا ندعي أن هنا شيئا صحيحا ، وأشد من ذلك أثر والدارقطني عمر عند في سننه قال : " لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جدة فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين " واستدل بهذه الروايات على أن الحج واجب على الفور ، وبه قال كثير من أهل الفقه والأثر ، والآخرون يقولون : إنه على التراخي . والاحتياط ألا يؤخر المستطيع الحج بغير عذر صحيح لئلا يفاجئه الموت قبل ذلك . سعيد بن منصور
أقول : إن الآية تشتمل على لبيت الله الحرام . فالمزايا كونه أول مسجد وضع للناس ، وكونه مباركا ، وكونه هدى للعالمين . والآيات : مقام مزايا وآيات إبراهيم وأمن داخله ، والحج إليه على ما بينا . ويذكر له المفسرون هنا خصائص ومزايا يعدونها من الآيات على تقدير " منها مقام إبراهيم " ومنهم من قال : إنها هي الآيات وإن قوله : مقام إبراهيم كلام مستقل . قال الرازي : فكأنه قال : فيه آيات بينات ، ومع ذلك هو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه . اهـ . ولعل الدافع لهم إلى هذا فهمهم أن مقام إبراهيم تفسير للآيات وهو مفرد ، وقد علمت أن ما بعده تابع له في ذلك . ومما يؤيد ذلك : محاولة الآخرين أن يجعلوا مقام إبراهيم بمنزلة عدة آيات . قال الرازي : إن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات ; لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ; لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء - عليهم السلام - آية خاصة لإبراهيم - عليه السلام - ، وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين ألوف السنين آية . فثبت أن مقام إبراهيم - عليه السلام - آيات كثيرة . اهـ .
أقول وقد تقدم في تفسير : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى [ 2 : 125 ] أن بعضهم يقول : إن مقامه عبارة عن موقفه حيث ذلك الأثر للقدمين وإن هذا ضعيف . والكلام هنا في أن مقام إبراهيم مشتمل على ما ذكر من الأثر وهذا هو الصحيح ، أما الأثر نفسه فقد كانت العرب تعتقد أنه قدمي إبراهيم ، كما قال أبو طالب في لاميته :
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل
وقد يؤخذ من قوله : " رطبة " أن الصخرة كانت عندما وطئ عليها رطبة لم تتحجر ثم تحجرت بعد ذلك وبقي أثر قدميه فيها ; وعلى هذا لا يظهر معنى كونه آية إلا على الوجه الذي جرينا عليه في تفسير آيات بينات دون ما جرى عليه الجمهور من كون الآيات بمعنى [ ص: 12 ] الخوارق الكونية ، وقد يكون مراده أنها كانت رطبة كرامة له ( وهو ما جرينا عليه في تفسير القصيدة في المنار - 465 م 9 ) وقال بعضهم : إن مقام مصدر بمعنى الجمع ، والمراد مقامات إبراهيم ، أي ما قام به من المناسك وأعمال الحج والمتبادر ما ذكرناه في موضعه .
ومما عدوه من الآيات : قصم من يقصده من الجبابرة بسوء كأصحاب الفيل ، ويرد عليهم ما كان من الحجاج ومن هم شر من الحجاج في هذا الزمان ، وعدم تعرض ضواري السباع للصيود فيه ، وهذا القول ظاهر الضعف إذ ليس ذلك آية . وعدم نفرة الطير من الناس هناك ، ويرد عليه أن الطير تألف الناس لعدم تعرضهم لها ، ولذلك نظائره في الأرض .
وانحراف الطير عن موازاته وليس بمتحقق . وكون وقوع الغيث فيه دليلا على الخصب ، فإذا عمه كان الخصب عاما وإذا وقع في جهة من جهاته كان الخصب في تلك الجهة من الأرض ، وهي آية وهمية .
ولعمري إن بيت الله غني عن اختراع الآيات وإلصاقها به مع براءته ، فحسبه شرفا كونه حرما آمنا ومثابة للناس وأمنا ومباركا هدى للعالمين ، وما فيه من الآيات التي ذكرها الله وإقسامه - تعالى - به وما ورد عن رسوله في حرمته وتحريمه وفضله ، ككونه لا يسفك فيه دم ولا يعضد شجره ، ولا يختلى خلاه - أي لا يقطع نباته - ولا ينفر صيده ، ولا تملك لقطته ، وكون قصده مكفرا للذنوب ماحيا للخطايا ، وكون العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره ، وكون استلام الحجر الأسود فيه رمزا إلى مبايعة الله - تعالى - على إقامة دينه والإخلاص له فيه ، وكون الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره . والأحاديث الواردة في ذلك تطلب من الصحيحين وكتب السنن .