( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون )
تنطق هذه الآيات بأن ما عليه هذا الصنف من الغرور بما عنده من التقاليد قد سول له الباطل وزين له سوء عمله فرآه حسنا ، وشوه في نظره كل حق لم يأته على لسان رؤسائه ومقلديه بنصه التفصيلي فهو يراه قبيحا ، وقد صورت الآيات هذا الغرور بما حكته عن بعض أفراده وهو :
( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) بما تصدون عن سبيل الله من آمن وتبغونها عوجا ، وتنفرون الناس عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - والأخذ بما جاء به من الإصلاح الذي [ ص: 132 ] يجتث أصول الفساد ويصطلم جراثيم الإداد ، ويحيي ما أماتته البدع من إرشاد الدين ، ويقيم ما قوضته التقاليد من سنن المرسلين .
( قالوا إنما نحن مصلحون ) بالتمسك بما استنبطه الرؤساء ، وما كان عليه الأحبار والعرفاء من تعاليم الأنبياء ، فإنهم أعرف بسنتهم ، وأدرى بطريقتهم ، فكيف ندع ما تلقيناه منهم ونذر ما يؤثره آباؤنا وشيوخنا عنهم ونأخذ بشيء جديد وطارف ليس له تليد ؟
هكذا شأن كل مفسد يدعي أنه مصلح في نفس إفساده ، فإن كان على بينة من إفساده عارفا أنه مضل - وإنما يكون كذلك إذا كان إفساده لغيره لعداوة منه له - فإنما يدعي ذلك لتبرئة نفسه من وصمة الإفساد بالتمويه والمواربة ، وإن كان مسوقا إلى الإفساد بسوء التقليد الأعمى الذي لا ميزان فيه لمعرفة الإصلاح من الإفساد إلا الثقة بالرؤساء المقلدين ، فهو يدعيه عن اعتقاد ولا يريد أن يفهم غير ما تلقاه عنهم ، وإن كان أثر تقليدهم والسير على طريقتهم مفسدا للأمة في الواقع ونفس الأمر ؛ لأن الوجود والحقيقة الواقعة لا قيمة لهما ولا اعتبار في نظر المقلدين ، بل هم لا يعرفون مناشئ الفساد ومصادر الخلل ولا مزالق الزلل ، لأنهم عطلوا نظرهم الذي يميز ذلك ، وأرادوا أن يوقعوا غيرهم بهذه المهالك ، بصدهم عن سبيل الإسلام الداعي إلى الوحدة والالتئام ، فكان ذلك منهم دعاء إلى الفرقة والانفصام ، والثبات على عبادة الملائكة أو البشر أو الأصنام ، وأي إفساد في الأرض أعظم من التنفير عن اتباع الحق ، وعن الاعتصام بدين فيه سعادة الدارين ، والأرض إنما تفسد وتصلح بأهلها ؟
ولذلك قال تعالى :
ألا إنهم هم المفسدون ) فابتدأ الكلام المؤكد لإثبات إفسادهم بكلمة " ألا " التي يراد بها التنبيه والإيقاظ وتوجيه النظر ، وتدل على اهتمام المتكلم بما يحكيه بعدها . (
( ولكن لا يشعرون ) بأن هذا إفساد غرز في طبائعهم بما تمكن فيها من الشبهة بتقليد رؤسائهم الذين أشربوا عظمتهم ، وهذا دليل على أنهم لم يكونوا معاندين ولا مرائين ، وأنهم على اعتقاد ضعيف لا يشهد له العمل كما تقدم في تفسير آية ( يخادعون الله ) .
وإذا كانت الآيات في وصف طائفة من الناس توجد في كل أمة - كما قدمنا - فليحاسب بها نفسه كل مسلم يعتقد أن القرآن إمامه وأن فيه هدى له ، فإنها حجة على كثير ممن يدعون الإسلام بالقول ويعملون بخلاف ما جاء به ويتبعون غير سبيله .
وأقول الآن : هذه جملة ما قرره شيخنا في الدرس واضعا نصب عينيه منافقي اليهود ، ولا سيما فقهائهم الذين كانوا مجاورين للنبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة ، وشدة الشبه بينهم وبين فقهاء السوء ولا سيما فقهاء عصرنا هذا ، ولذلك نبه لعموم الآيات وشمولها [ ص: 133 ] لهم عودا على بدء ، وإنما مراده بنفي الرياء عنهم أنهم يعتقدون ما قالوا هنا ، وهو لا ينفي رياءهم في غيره من أقوالهم وأفعالهم ، وقد كان لأولئك الأحبار والرؤساء من الإفساد غير ما ذكر ، ومنه - والمؤمنين ووعدهم بمساعدتهم عليه ، وهذا إفساد كبير في الأرض ، وكانوا يستبيحونه بأنه توسل إلى حفظ سلطتهم ورياستهم المهددة باتباع إغراء المشركين بقتال النبي - صلى الله عليه وسلم محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ولم يذكر فيما كتبت عنه رأيه فيمن سألهم وقال لهم ما ذكر وأجابوه بهذا الجواب ، هل هو الله تعالى أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو المؤمنون ؟ وهي الاحتمالات التي ذكرها المفسرون - وزاد بعضهم رابعا : وهو أن يكون بعضهم سأل بعضا لما كانوا عليه من اختلاف الحال وتباين الآراء ، كما قال تعالى فيهم : ( تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ) ( 59 : 14 ) فأي مانع لنهي بعضهم لبعض عن نكث ما عاهدهم عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من إقرارهم على دينهم وحفظ أموالهم وأنفسهم بألا يؤلبوا عليه المشركين ولا يساعدوهم عليه ، وأن يقولوا للناكثين المفسدين : إن الحرب فساد عظيم لا يؤمن أن يتعدى إلينا شرها فيطير من شررها ما نحترق به ، فدعوا تأليب قوم محمد عليه . ثم أي مانع يمنع أن يجيبهم أولئك المفسدون ككعب بن الأشرف :
( إنما نحن مصلحون ) بمساعدة قومه عليه لأننا نخشى منه ما لا نخشى منهم ، فقد عشنا معهم أجيالا لم ينازعنا منهم أحد في صحة ديننا ، لأنهم لا يدعون إلى شركهم ولا يحتقرون ما نحن عليه من الدين ، بل يروننا فوقهم في العلم ، ومنهم من يعطينا أولاده لنربيهم ولا يكرهون أن نلقنهم ديننا . وأما محمد فيقول : إننا ضللنا عن ديننا نفسه ، ويعيبنا بتحريف سلفنا وخلفنا لكتابنا ، وبما كان من مخازي تاريخنا كقتل الأنبياء ونكث العهود ، وأكل السحت ، فإذا كان له الغلب على مشركي قومه ، لا نأمن أن يبقي لنا ديننا ومكانتنا السامية في بلاد العرب ، وإن هو حفظ عهده لنا ، ولم يغدر فيقاتلنا فكيف إذا هو غدر بنا وقاتلنا بعد الفراغ من قومه ؟ .
هذا أقرب إلى المعقول مما قاله المفسرون في السؤال والسائل ، وفيه وجه آخر لعله أقوى .
وهو أن السؤال والجواب مفروض وفرض ، والمراد بيان حالهم في هذا الأمر وما تنطوي عليه جوانحهم بصيغة السؤال والجواب التي هي أقوى أساليب الكلام تنبيها للأذهان ، وتوجيها لها إلى الإحاطة بمعاني الكلام ، ولذلك يستعملها العلماء في بيان مهمات المسائل وحل عويص المشاكل ، ويقولون : إذا قيل كذا قلنا كذا ، وإن سئلنا عن هذا أجبنا بكذا ، وأما الفرق بين الشرطين في مثل هذا الأسلوب فالبلاغة تقتضي أن يكون السؤال بإذا عما كان سببه قويا من شأنه ألا يسكت عنه ، ويصدر بإن إذا كان سببه ضعيفا ولكنه محتمل ، فيجاب عنه احتياطا .
ثم أقول : إن ما تقدم مبني على أن السؤال والجواب في بيان حال منافقي اليهود - وهو المختار عند شيخنا - وقد ورد في التفسير المأثور جعله في بيان حال منافقي المدينة من العرب [ ص: 134 ] كعبد الله بن أبي ابن سلول وحزبه ، فإنهم كانوا يفسدون في الأرض بالتشكيك في الدين ، وبتفريق كلمة المؤمنين كما فعلوا في غزوة أحد ثم في غزوة تبوك ، فكان هذا شأنهم وإن كانت الغزوتان بعد نزول هذه السورة ، وروي تفسير إفسادهم بالكفر والمعاصي ، وما قلناه منه ولكنه أخص وهو المتبادر ، ودعواهم : أن هذا إصلاح كدعواهم الإيمان ، وكل مفسد وضال يسمي إفساده وضلاله بأسماء حسنة ، كما يسمون الشرك بالله في زماننا بدعاء غيره : توسلا . . .
وعن : أنهم كانوا يقولون : إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين ابن عباس وأهل الكتاب .
ثم صورت الآيات ذلك الجهل والغرور في الفريقين بصورة أخرى أشد تشويها مما قبلها ؛ لأن تلك صورتهم في عملهم ، وهذه صورتهم في جوهر إيمانهم ، وهي :