( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ) الذين تعتقدون كمالهم وترون تعظيمهم وإجلالهم : كإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وأتباعهم ، الذين كان الإيمان راسخا في جنابهم ، ومؤثرا في وجدانهم ، ومصرفا لأبدانهم ، أو وأمثاله من علمائكم ، كعبد الله بن سلام
( قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ) أقول : : الطيش وخفة العقل وضعف الرأي ومن لوازمه سوء التصرف ، ومنه قيل : زمام سفيه : كثير الاضطراب لمرح الناقة ومنازعتها إياه ، وثوب سفيه : رديء النسج ، واستعمل في خفة النفس لنقصان العقل ، وفي الأمور الدنيوية والأخروية فقيل : سفه نفسه ، ويعنون بالسفهاء أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - الواقفين عند ما كان عليه ، المعرضين عن غير ما أنزل إليه ، لما تضمنه الأمر من الشهادة لهم بأنهم في إيمانهم كأتباع أولئك الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، وهم سلف المراد بالسفه اليهود الذين كان الكلام معهم ، وكانوا يفتخرون بما يتناقلونه من سيرتهم فرد الله تعالى عليهم بقوله :
ألا إنهم هم السفهاء ) أي وحدهم دون من عرضوا بهم ؛ لأن لهم سلفا صالحا تركوا الاقتداء بهم ، زعما أن المتأخر لا يمكن أن يكون على هدي المتقدم ؛ لأنه يصعب أو يتعذر عليه اللحاق به ، واحتذاء عمله ، لعلوه في الدرجة ، وبعده في المنزلة ، وأن حظهم من سلفهم انتظار شفاعتهم ، وإن لم يسيروا على سنتهم ، فأي الفريقين أجدر بلقب السفيه ، أهم أولئك ( اليهود الذين لهم أسوة صالحة ولكنهم لا يهتدون بها وهذه حالهم من سوء العقيدة وقبح العمل ؟
أم من لا سلف له إلا عبدة الأوثان ، وقلبه مع ذلك مطمئن بالإيمان ، وأعماله تشهد له بالإحسان ، كالصحابة الذين هداهم الله بنور الإسلام فكانوا كأتباع أولئك الأنبياء الكرام ، بل ربما سبقوهم بالفضائل ، وزادوا عليهم في الفواضل ؟ لا شك أن أولئك المفسدين بعد ما تقدم لهم من سلف صالح ، ودين قيم ، هم السفهاء دون هؤلاء العقلاء .
( ولكن لا يعلمون ) أن السفه محصور فيهم ومقصور عليهم ، وإنما عندهم شعور ما [ ص: 135 ] بأنهم ركبوا هواهم ولم يتبعوا هدي سلفهم ولا هداهم ، ينتحلون له العلل الضعيفة ويتمحلون له الأعذار السخيفة ، فهو لم يصل إلى حد العلم الذي تتكيف به النفس ، ويكفي في إثبات سفههم أنهم يعرفون حسن حال سلفهم ، ويعترفون به ، ولكن لا يقتدون بهم ولا يقتفون أثرهم ، وإنما يعتمدون في نجاتهم وسعادتهم على تلك الأماني والتعلات ، كقولهم : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ) ( 3 : 24 ) وقولهم ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ( 5 : 18 ) وشعبه وأصفياؤه ، ولا يصح نفي الشعور عنهم في هذا المقام مع ذلك الاعتراف وإنما هو نفي العلم الكامل الذي يزيل الشبه ويذهب بالعلل ، ويبعث على الاقتداء بالعمل .
وهذا أيضا حجة على كثير من اللابسين لباس الإسلام وهم من هذا الصنف ، يعتقدون كمال سلفهم ، ولا يقتدون بهم ، وإنما يطمعون في سعادة الدنيا والآخرة بانتسابهم إلى أولئك السلف العظام ، ولكونهم من أمة النبي - عليه الصلاة والسلام - وهي خير الأمم بشهادة الله في القدم ، ولكنهم لا يعلمون أنها فضلت سواها بكونها أمة وسطا تقوم على جادة الاعتدال في العقائد والأخلاق والأعمال ، وتسعى في إصلاح البشر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كما سيأتي في تفسير ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ( 2 : 143 ) وتفسير ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ( 3 : 110 ) وليس عند هؤلاء السفهاء شيء من هذه الصفات ، إلا الأماني والتعلات .
وأزيد في هذا السياق الذي شرحت به قول شيخنا في الدرس : تذكير هؤلاء مرضى القلوب من المسلمين ، والذين اتبعوا سنن من قبلهم في هذا كما اتبعوهم في غيره ( ( ) ) كما ورد في حديث الصحيحين - أزيد فيه تذكيرهم بقوله تعالى في شبرا بشبر وذراعا بذراع أهل الكتاب الآتي في هذه السورة : ( لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ) ( 2 : 78 ) وقوله فيهم وفي أفضل سلف هذه الأمة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) ( 4 : 123 ) الآيات .
ثم أقول : إن جريان هذا السؤال والجواب في منافقي العرب أظهر مما قبله - فعبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه من منافقي المدينة ، كانوا أبعد عن الإيمان وأدنى إلى مخادعة الله ورسوله والمؤمنين من منافقي اليهود في أنفسهم وقومهم ومع المؤمنين ، ولا شك أنهم كانوا يعدون المؤمنين الصادقين سفهاء الأحلام ، في اتباعهم للرسول - عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام - ، أما المهاجرون منهم ، فلأنهم عادوا قومهم وأقاربهم وهجروا وطنهم وتركوا ديارهم ليكونوا تابعين له ، وأما الأنصار ، فلأنهم شاركوا المهاجرين في ديارهم وأموالهم . وكون هذا من السفه عند المؤمن بهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به ظاهر جلي - ولذلك نفي عنهم الشعور بأنهم هم السفهاء دون المؤمنين ، ويؤيد ما قلته : ما حكاه الله تعالى [ ص: 136 ] عنهم في سورتهم بقوله : ( هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون ) ( 63 : 7 ) .
هذا - وإننا أشرنا إلى نكتة اختلاف التعبير في نفي الشعور عن المنافقين في موضعين ، ونفي العلم في موضع واحد من هذه الآيات . وأزيد عليه في نكتة نفي العلم الآن ما ينبه الأذهان إلى ، وهو أن أمر الإيمان لا يتحقق إلا بالعلم اليقين ، فموضوعه علمي ، ثم إن ثمرته السعادة في الدنيا والآخرة ، ولا يدرك ذلك إلا من علم حقيقته ، فنفي عنهم العلم بأنهم هم السفهاء فيما رموا به المؤمنين بالسفاه بشبهة أنهم أخطئوا مصلحتهم ومصلحة قومهم دقة التعبير في القرآن الأنصار ومصلحة أمتهم العربية في اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن عدم العلم بذلك سببه عدم العلم بكنه الإيمان وعاقبته ، ومن جهل الملزوم كان بلوازمه أجهل ، فكأنه قال : ولكن لا يعلمون ما الإيمان حتى يعلموا أن المؤمنين سفهاء غاوون ، أو عقلاء راشدون ؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، وهم جاهلون به ويجهلون أنهم جاهلون .
ومن مباحث الأداء في الآيات : ما في اجتماع الهمزتين من آخر " السفهاء " وأول " ألا " من قراءة تحقيقهما بالنطق بهما معا وقراءتي تحقيق الأولى وتليين الثانية وعكسه ، وقراءة بعضهم بهمزة واحدة ، وكذلك أمثالها من كل همزتين في كلمتين .