الأستاذ الإمام : إن هذا القسم من النساء ليس للرجال عليهن شيء من سلطان التأديب ، وإنما سلطانهم على القسم الثاني الذي بينه ، وبين حكمه بقوله عز وجل : واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن النشوز في الأصل بمعنى الارتفاع ، فالمرأة التي تخرج عن حقوق الرجل قد ترفعت عليه وحاولت أن تكون فوق رئيسها ، بل ترفعت أيضا عن طبيعتها ، وما يقتضيه نظام الفطرة في التعامل ، فتكون كالناشز من الأرض الذي خرج عن الاستواء ، وقد فسر بعضهم خوف النشوز بتوقعه فقط ، وبعضهم بالعلم به ، ولكن يقال : لم ترك لفظ العلم ، واستبدل به لفظ الخوف ؟ أو لم لم يقل : واللاتي ينشزن ؟ لا جرم أن في تعبير القرآن حكمة لطيفة ، وهي أن الله تعالى لما كان يحب أن تكون المعيشة بين الزوجين معيشة محبة ومودة وتراض والتئام لم يشأ أن يسند النشوز إلى النساء إسنادا يدل على أن من شأنه أن يقع منهن فعلا ، بل عبر عن ذلك بعبارة تومئ إلى أن من شأنه ألا يقع ؛ لأنه خروج عن الأصل الذي يقوم به نظام الفطرة ، وتطيب به المعيشة ، ففي هذا التعبير تنبيه لطيف إلى مكانة المرأة ، وما هو الأولى في شأنها ، وإلى ما يجب على الرجل من السياسة لها وحسن التلطف في معاملتها ، حتى إذا آنس منها ما يخشى أن يؤول إلى الترفع وعدم القيام بحقوق الزوجية ، فعليه أولا أن يبدأ بالوعظ الذي يرى أنه يؤثر في نفسها ، والوعظ يختلف باختلاف حال المرأة ، فمنهن من يؤثر في نفسها التخويف من الله عز وجل وعقابه على النشوز ، ومنهن من يؤثر في نفسها التهديد والتحذير من سوء العاقبة في الدنيا ، كشماتة الأعداء والمنع من بعض الرغائب كالثياب الحسنة والحلي ، والرجل العاقل لا يخفى عليه الوعظ الذي يؤثر في قلب أمرأته ، وأما الهجر : فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها ويشق عليها هجره إياها ، وذهب بعض المفسرين ، ومنهم ، أن المرأة التي تنشز لا تبالي بهجر زوجها بمعنى إعراضه عنها ، وقالوا : إن معنى ابن جرير الطبري واهجروهن قيدوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار [ ص: 60 ] وهو القيد الذي يقيد به ، وليس هذا الذي قالوه بشيء ، وما هم بالواقفين على أخلاق النساء وطباعهن ; فإن منهن من تحب زوجها ويزين لها الطيش والرعونة النشوز عليه ، ومنهن من تنشز امتحانا لزوجها ليظهر لها أو للناس مقدار شغفه بها وحرصه على رضاها ، أقول : ومنهن من تنشز لتحمل زوجها على إرضائها بما تطلب من الحلي والحلل ، أو غير ذلك ، ومنهن من يغريها أهلها بالنشوز لمآرب لهم .
ولم يتكلم الأستاذ الإمام عن الهجر في المضاجع ; لأنه بديهي ، وكم تخبط المفسرون في تفسير البديهيات التي يفهمها الأميون ; فإنك إذا قلت لأي عامي : إن فلانا يهجر امرأته في المضجع أو في محل الاضطجاع ، أو في المرقد أو محل النوم فإنه يفهم المراد من قولك ، ولكن المفسرين رأوا العبارة محلا لاختلاف أفهامهم ، فمنهم من صرح بما يراد من الكناية ، وأخل بما قصد في الكتابة من النزاهة ، ومنهم من قال : المعنى اهجروا حجرهن التي هي محل مبيتهن ، ومنهم من قال : المراد اهجروهن بسبب المضاجع أي : بسبب عصيانهن إياكم فيها ، وهذا يدخل في معنى النشوز ، فما معنى جعله هو المراد بالعقاب ؟ وقال بعض من فسر الهجر بالتقييد بالهجار : قيدوهن لأجل الإكراه على ما تمنعن عنه ، وسمى هذا التفسير بتفسير الثقلاء ، والمعنى الصحيح هو ما تبادر إلى فهمك أيها القارئ وما يتبادر إلى فهم كل من يعرف هذه الكلمات من اللغة ، ولك أن تقول : العبارة تدل بمفهومها على منع ما جعله بعضهم معنى لها فهو يقول : الزمخشري واهجروهن في المضاجع ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه وهو الفراش ، ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع ، وإنما يتحقق بهجر في الفراش نفسه ، وتعمد هجر الفراش أو الحجرة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى ، وربما يكون سببا لزيادة الجفوة ، وفي الهجر في المضجع نفسه معنى لا يتحقق بهجر المضجع ، أو البيت الذي هو فيه ; لأن الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجية ، فتسكن نفس كل من الزوجين إلى الآخر ويزول اضطرابهما الذي أثارته الحوادث من قبل ذلك ، فإذا هجر الرجل المرأة وأعرض عنها في هذه الحالة رجي أن يدعوها ذلك الشعور والسكون النفسي إلى سؤاله عن السبب ، ويهبط بها من نشز المخالفة إلى صفصف الموافقة ، وكأني بالقارئ وقد جزم بأن هذا هو المراد ، وإن كان مثلي لم يره لأحد من الأموات ولا الأحياء .
وأما الضرب فاشترطوا فيه أن يكون غير مبرح ، وروى ذلك مرفوعا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والتبريح الإيذاء الشديد ، وروي عن ابن جرير ـ رضي الله عنه ـ تفسيره بالضرب بالسواك ونحوه ، أي : كالضرب باليد أو بقصبة صغيرة ، وقد روي ابن عباس عن مقاتل في سبب نزول الآية في وكان من النقباء وفي امرأته سعد بن الربيع بن عمرو حبيبة [ ص: 61 ] بنت زيد بن أبي زهير ، وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : أفرشته كريمتي فلطمها ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لتقتص من زوجها " ، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ارجعوا ، هذا جبرائيل أتاني وأنزل الله هذه الآية فتلاها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : أردنا أمرا ، وأراد الله أمرا ، والذي أراده الله تعالى خير ، وقال الكلبي : نزلت في وامرأته سعد بن الربيع خولة بنت محمد بن مسلمة ، وذكر القصة ، وقيل : نزلت في غير من ذكر .
يستكبر بعض مقلدة الإفرنج في آدابهم منا مشروعية ، ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه ، فتجعله وهو رئيس البيت مرءوسا بل محتقرا ، وتصر على نشوزها حتى لا تلين لوعظه ونصحه ، ولا تبالي بإعراضه وهجره ، ولا أدري بم يعالجون هؤلاء النواشز ؟ وبم يشيرون على أزواجهن أو يعاملوهن به ؟ لعلهم يتخيلون امرأة ضعيفة نحيفة ، مهذبة أديبة ، يبغي عليها رجل فظ غليظ ، فيطعم سوطه من لحمها الغريض ، ويسقيه من دمها العبيط ، ويزعم أن الله تعالى أباح له مثل هذا الضرب من الضرب ، وإن تجرم وتجنى عليها ولا ذنب ، كما يقع كثيرا من غلاظ الأكباد متحجري الطباع ، وحاش لله أن يأذن بمثل هذا الظلم أو يرضى به ، إن من الرجال الجعظري الجواظ الذي يظلم المرأة بمحض العدوان ، وقد ورد في وصية أمثالهم بالنساء كثير من الأحاديث ، ويأتي في حقهم ما جاءت به الآية من التحكيم ، وإن من النساء الفوارك المناشيص المفسلات اللواتي يمقتن أزواجهن ، ويكفرن أيديهم عليهن ، وينشزن عليهم صلفا وعنادا ، ويكلفنهم ما لا طاقة لهم به ، فأي فساد يقع في الأرض إذا أبيح للرجل التقي الفاضل أن يخفض من صلف إحداهن ، ويدهورها من نشز غرورها بسواك يضرب به يدها ، أو كف يهوي بها على رقبتها ؟ وإن كثيرا من أئمتهم الإفرنج يضربون نساءهم العالمات المهذبات والكاسيات العاريات ، المائلات المميلات ، فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم ، وملوكهم وأمراؤهم ، فهو ضرورة لا يستغني عنها الغالون في تكريم أولئك النساء المتعلمات ، فكيف تستنكر إباحته للضرورة في دين عام للبدو والحضر ، من جميع أصناف البشر ؟ ! . ضرب المرأة الناشز
[ ص: 62 ] الأستاذ الإمام : إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة ، فيحتاج إلى التأويل ، فهو أمر يحتاج إليه في حال فساد البيئة وغلبة الأخلاق الفاسدة ، وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه ، وإذا صلحت البيئة ، وصار النساء يعقلن النصيحة ، ويستجبن للوعظ ، أو يزدجرن بالهجر ، فيجب الاستغناء عن الضرب ، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع ، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء ، واجتناب ظلمهن ، وإمساكهن بالمعروف ، أو تسريحهن بإحسان ، والأحاديث في كثيرة جدا . الوصية بالنساء
أقول : ومن هذه الأحاديث ما هو في تقبيح الضرب والتنفير عنه ، ومنها حديث عبد الله بن زمعة في الصحيحين ، قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وفي رواية عن أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ، ثم يجامعها في آخر اليوم ؟ عائشة عند عبد الرزاق : يذكر الرجل بأنه إذا كان يعلم من نفسه أنه لا بد له من ذلك الاجتماع والاتصال الخاص بامرأته ، وهو أقوى وأحكم اجتماع يكون بين اثنين من البشر يتحد أحدهما بالآخر اتحادا تاما ، فيشعر كل منهما بأن صلته بالآخر أقوى من صلة بعض أعضائه ببعض ـ إذا كان لا بد له من هذه الصلة والوحدة التي تقتضيها الفطرة ، فكيف يليق به أن يجعل امرأته وهي كنفسه ، مهينة كمهانة عبده ، بحيث يضربها بسوطه أو يده ؟ حقا إن الرجل الحيي الكريم ليتجافى طبعه عن مثل هذا الجفاء ، ويأبى عليه أن يطلب منتهى الاتحاد بمن أنزلها منزلة الإماء ، فالحديث أبلغ ما يمكن أن يقال في تشنيع ضرب النساء ، وأذكر أنني هديت إلى معناه العالي قبل أن أطلع على لفظه الشريف ، فكنت كلما سمعت أن رجلا ضرب امرأته أقول : يا لله العجب كيف يستطيع الإنسان أن يعيش عيشة الأزواج مع امرأة تضرب ، تارة يسطو عليها بالضرب ، فتكون منه كالشاة من الذئب ، وتارة يذل لها كالعبد طالبا منها منتهى القرب ؟ ولكن لا ننكر أن الناس متفاوتون ؛ فمنهم من لا تطيب له هذه الحياة ، فإذا لم تقدر امرأته بسوء تربيتها تكريمه إياها حق قدره ، ولم ترجع عن نشوزها بالوعظ والهجران ، فارقها بمعروف وسرحها بإحسان إلا أن يرجو صلاحها بالتحكيم الذي أرشدت إليه الآية ، ولا يضرب ؛ فإن الأخيار لا يضربون النساء ، وإن أبيح لهم ذلك للضرورة ، فقد روى أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ، ثم يجامعها آخره ؟ البيهقي أم كلثوم بنت الصديق رضي الله عنهما قالت : كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ، ثم شكوهن إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فخلى بينهم وبين ضربهن ، ثم قال : ولن يضرب خياركم فما أشبه هذه الرخصة بالحظر ، وجملة القول أن الضرب علاج مر ، قد يستغني عنه الخير الحر ، ولكنه لا يزول من البيوت بكل حال ، أو يعم التهذيب النساء والرجال . من حديث
[ ص: 63 ] هذا وإن أكثر الفقهاء الذين قد خصوا النشوز الشرعي الذي يبيح الضرب إن احتيج إليه لإزالته بخصال قليلة ، كعصيان الرجل في الفراش ، والخروج من الدار بدون عذر ، وجعل بعضهم تركها الزينة وهو يطلبها نشوزا ، وقالوا : له أن يضربها أيضا على ترك الفرائض الدينية كالغسل والصلاة ، والظاهر أن النشوز أعم فيشمل كل عصيان سببه الترفع والإباء ، ويفيد هذا قوله : فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ، قال الأستاذ الإمام : أي : إن أطعنكم بواحدة من هذه الخصال التأديبية فلا تبغوا بتجاوزها إلى غيره ، فابدءوا بما بدأ الله به من الوعظ ، فإن لم يفد فليهجر ، فإن لم يفد فليضرب ، فإذا لم يفد هذا أيضا يلجأ إلى التحكيم ، ويفهم من هذا أن القانتات لا سبيل عليهن حتى في الوعظ والنصح ، فضلا عن الهجر والضرب .
وأقول : صرح كثير من المفسرين بوجوب هذا الترتيب في التأديب ، وإن كان العطف بالواو لا يفيد الترتيب ، قال بعضهم : دل على ذلك السياق والقرينة العقلية إذ لو عكس كان استغناء بالأشد عن الأضعف ، فلا يكون لهذا فائدة ، وقال بعضهم : الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزئة مختلفة في الشدة والضعف ، مرتبة على أمر مدرج ، فإنما النص هو الدال على الترتيب ومعنى : لا تبغوا عليهن سبيلا ، لا تطلبوا طريقا للوصول إلى إيذائهن بالقول أو الفعل ، فالبغي بمعنى الطلب ، ويجوز أن يكون بمعنى تجاوز الحد في الاعتداء ، أي : فلا تظلموهن بطريق ما ، فمتى استقام لكم الظاهر ، فلا تبحثوا عن مطاوي السرائر : إن الله كان عليا كبيرا فإن سلطانه عليكم فوق سلطانكم على نسائكم ، فإذا بغيتم عليهن عاقبكم ، وإذا تجاوزتم عن هفواتهن كرما وشمما تجاوز عنكم ، قال الأستاذ : أتى بهذا بعد النهي عن البغي ؛ لأن الرجل إنما يبغي على المرأة بما يحسه في نفسه من الاستعلاء عليها ، وكونه أكبر منها وأقدر ، فذكره تعالى بعلوه وكبريائه وقدرته عليه ليتعظ ويخشع ويتقي الله فيها ، واعلموا أن الرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة في بيوتهم إنما يلدون عبيدا لغيرهم ، يعني أن أولادهم يتربون على ذل الظلم فيكونون كالعبيد الأذلاء لمن يحتاجون إلى المعيشة معهم .