فخوف الشقاق توقعه بظهور أسبابه ، والشقاق هو الخلاف الذي يكون به كل من المختلفين في شق أي في جانب ، والحكم ( بالتحريك ) : من له حق الحكم والفصل بين الخصمين (
فيك الخصم وأنت الخصم والحكم
) ويطلق على الشيخ المسن ؛ لأن من شأنه أن يتحاكم إليه لرويته وتجربته ، والمراد ببعثهما إرسالهما إلى الزوجين لينظرا في شكوى كل منهما ، ويتعرفا ما يرجى أن يصلح بينهما ، ويسترضوهما بالتحكيم ، وإعطائهما حق الجمع والتفريق ، روى في الأم الشافعي والبيهقي في " السنن " وغيرهما ، عن قال : " جاء رجل وامرأة إلى عبيدة السلماني علي كرم الله تعالى وجهه ومع كل واحد منهما فئام من الناس ، فأمرهم علي أن يبعثوا رجلا حكما من أهله ، ورجلا حكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : تدريان ما عليكما ؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا ، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا ، قالت المرأة : رضيت كتاب الله تعالى بما علي به ، ولي ، وقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به " ، وروى عن ابن جرير عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه الآية : هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما ، أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة ، فينظران أيهما المسيء ، فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة ، فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز ، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما ، فإن الذي رضي يرث الذي كره ، ولا يرث الكاره الراضي ، وأكثر فقهاء المذاهب المعروفة لا يقولون بقولي هذين الإمامين الصحابيين فيما هو حق للحكمين ، والمسألة اجتهادية عندهم ، والمجتهد لا يقلد مجتهدا آخر ، والنص إنما هو في وجوب بعث الحكمين ، ليجتهدا في إصلاح ذات البين ، وهل هما قاضيان ينفذ حكمهما بكل حال ، أم وكيلان ليس لهما إلا ما وكلهما الزوجان به ؟ المسألة خلافية والظاهر الأول ؛ لأن الحكم في اللغة هو الحاكم .الأستاذ الإمام : الخطاب للمؤمنين ولا يتأتى أن يكلف كل واحد ، أو كل جماعة منهم ذلك ; ولذلك قال بعض المفسرين : إن الخطاب هنا موجه إلى من يمكنه القيام بهذا العمل ممن يمثل المسلمين وهم الحكام ، وقال بعضهم : إن الخطاب عام ، ويدخل فيه الزوجان وأقاربهما ، فإن قام به الزوجان أو ذوو القربى أو الجيران فذاك ، وإلا وجب على من بلغه أمرهما من المسلمين أن يسعى في إصلاح ذات بينهما بذلك ، وكلا القولين وجيه ، فالأول يكلف الحكام ملاحظة أحوال العامة والاجتهاد في إصلاح أحوالهم ، والثاني يكلف كل المسلمين أن يلاحظ بعضهم [ ص: 65 ] شئون بعض ، ويعينه على ما تحسن به حاله ، واختلفوا في وظيفة الحكمين ، فقال بعضهم : إنهما وكيلان لا يحكمان إلا بما وكلا به ، وقال بعضهم : إنهما حاكمان ( وذكر مذهب علي ، بالاختصار ، وقد ذكرنا الرواية عنهما آنفا ) ، وقوله : وابن عباس إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ، يشعر بأنه يجب على الحكمين ألا يدخرا وسعا في الإصلاح ، كأنه يقول : إن صحت إرادتهما فالتوفيق كائن لا محالة ، وهذا يدل على نهاية العناية من الله تعالى في إحكام نظام البيوت الذي لا قيمة له عند المسلمين في هذا الزمان ، وانظروا كيف لم يذكر مقابل التوفيق بينهما وهو التفريق عند تعينه ، لم يذكره حتى لا يذكر به ؛ لأنه يبغضه ، وليشعر النفوس أنه ليس من شأنه أن يقع ، وظاهر الأمر أن هذا التحكيم واجب ، لكنهم اختلفوا فيه فقال بعضهم : إنه واجب ، وبعضهم : إنه مندوب ، واشتغلوا بالخلاف فيه عن العمل به ؛ لأن عنايتنا بالدين صارت محصورة في الخلاف والجدل ، وتعصب كل طائفة من المسلمين لقول واحد من المختلفين ، مع عدم العناية بالعمل به ، فها هم أولاء قد أهملوا هذه الوصية الجليلة لا يعمل بها أحد على أنها واجبة ، ولا على أنها مندوبة ، والبيوت يدب فيها الفساد ، فيفتك بالأخلاق والآداب ، ويسري من الوالدين على الأولاد .
إن الله كان عليما خبيرا ، أي : إنه كان فيما شرعه لكم من هذا الحكم ، عليما ، بأحوال العباد وأخلاقهم ، وما يصلح لهم ، خبيرا بما يقع بينهم وبأسبابه الظاهرة ، والباطنة فلا يخفى عليه شيء من وسائل الإصلاح بينهما ، وإني لأكاد أبصر الآية الحكيمة تومئ بالاسمين الكريمين إلى أن كثيرا من الخلاف يقع بين الزوجين ، فيظن أنه مما يتعذر تلافيه ، وهو في الواقع ، ونفس الأمر ناشئ عن سوء التفاهم لأسباب عارضة ، لا عن تباين في الطباع ، أو عداوة راسخة ، وما كان كذلك يسهل على الحكمين الخبيرين بدخائل الزوجين لقربهما منهما أن يمحصا ما علق من أسبابه في قلوبهما ، مهما حسنت النية وصحت الإرادة .
إن الزوجية أقوى رابطة تربط اثنين من البشر أحدهما بالآخر ، فهي الصلة التي بها يشعر كل من الزوجين بأنه شريك الآخر في كل شيء مادي ومعنوي ، حتى إن كل واحد منهما يؤاخذ بالآخر على دقائق خطرات الحب ، وخفايا خلجات القلب ، يستشفها من وراء الحجب ، أو توحيها إليه حركات الأجفان ، أو يستنبطها من فلتات اللسان ، إذا لم تصرح بها شواهد الامتحان ، فهما يتغايران في أخفى ما يشتركان فيه ، ويكتفيان بشهادة الظنة والوهم عليه ، فيغريهما ذلك بالتنازع في كل ما يقصر فيه أحدهما من الأمور المشتركة بينهما ، وما أكثرها ، وأعسر التوقي منها ، فكثيرا ما يفضي التنازع إلى التقاطع ، والتغاير إلى التدابر ، فإن تعاتبا فجدل ومراء ، لا استعتاب واسترضاء ، حتى يحل الكره والبغضاء محل الحب والهناء ، لذلك يصح لك أن تحكم إن كنت عليما بالأخلاق والطبع ، خبيرا بشئون الاجتماع ، بأن تلك الحكمة التي أرسلها أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه ـ هي القاعدة الثابتة [ ص: 66 ] في جميع الأمم وجميع الأعصار ، وأنها يجب أن تكون في محل الذكرى من الحكمين اللذين يريدان إصلاح ما بين الزوجين ، كما يجب أن يعرفها ولا ينساها جميع الأزواج ، تلك الحكمة هي قوله للتي صرحت بأنها لا تحب زوجا : " إذا كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تخبره بذلك ، فإن أقل البيوت ما بني على المحبة ، وإنما يعيش ( أو قال يتعاشر ) الناس بالحسب والإسلام ، أي : إن حسب كل من الزوجين وشرفه إنما يحفظ بحسن عشرته للآخر ، وكذلك الإسلام يأمرهما بأن يتعاشرا بالمعروف . راجع تفسير : عمر بن الخطاب فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ( 4 : 19 ) .
قد اهتدى الإفرنج إلى العمل بهذه الحكمة البالغة بعد أن استبحر علم النفس والأخلاق وتدبير المنزل عندهم ، فربوا نساءهم ورجالهم على احترام رابطة الزوجية ، وعلى أن يجتهد كل من الزوجين أن يعيشا بالمحبة ، فإن لم يسعدا بها فليعيشا بالحسب ، وهو تكريم كل منهما للآخر ، ومراعاته لشرفه ، وقيامه بما يجب له من الآداب والأعمال التي جرى عليها عرف أمتهم ، ثم يعذره فيما وراء ذلك ، وإن علم أنه لا يحبه فلا يذكر له ذلك ، وقد صرحوا بأن سعادة المحبة الزوجية الخالصة قلما تمتع بها زوجان ، وإن كانت أمنية كل الأزواج ، وإنما يستبدلون بها المودة العملية ، ولكنهم بإباحة المخالطة والتبرج قد أفرطوا في إرخاء العنان ، حتى صار الأزواج يتسامحون في السفاح ، أو اتخاذ الأخدان ، وهذان يعصم مجموع أمتنا منه الإسلام .