: إعجاز سورة الكوثر
وأما السورة فهي في أفق أعلى مما قال مسيلمة الكذاب ، ومما عزاه إليه المبشر الجاهل المخادع ، حتى لو فرض أنه قال ما قال من تلقاء نفسه .
" الكوثر " في السورة لا يوجد في اللغة ما يحكيه أو يحل محله فيها ، إذ معناه الكثير البالغ منتهى حدود الكثرة في الخير حسيا كان ، كالمال والرجال والذرية والأتباع ، أو معنويا ، كالعلم والهدى والصلاح والإصلاح ، ويشمل الكثير من خيري الدنيا والآخرة .
وهو يطلق على السخي الجواد أيضا .
وأما موقعه في أول السورة وموقع كلمة " الأبتر " في آخرها اللذان اقتضتهما البلاغة وتأبى أن يحل غيرهما محلهما ، فهو أن رؤساء المشركين المستكبرين كانوا يحقرون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لفقره وضعف عصبيته ، ويتربصون به الموت أو غيره من الدوائر زاعمين أن ما له من قوة التأثير في الأنفس بتلاوة القرآن يزول بزوال شخصه كما قال تعالى : ( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ) ( 52 : 30 - 31 ) وكانوا يقولون عندما رأوا أبناءه يموتون : بتر محمد ، أو صار أبتر ، أي انقطع ذكره [ ص: 190 ] بانقطاع ولده وعصبيته ، وكانوا يعدون الفقر وانقطاع العقب مطعنا في دينه ، ودليلا على توديع الله له وعدم عنايته به تبعا لاستدلالهم بالغنى وكثرة الولد على رضاء الله تعالى وعنايته كما حكى عنهم سبحانه بقوله : ( وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ) ( 34 : 35 ) وقد أبطل الله تعالى بهذه السورة شبهتهم ، ودحض حجتهم ، وجعل فألهم شؤما عليهم لما بين من عاقبة أمرهم وأمره ، قال ما تفسيره بالإيجاز :
( إنا ) بما لنا من القدرة على كل شيء ( أعطيناك ) أيها الرسول من خيري الدنيا والآخرة ( الكوثر ) : الذي لا تحد كثرته ولا تحصر ، من الدين الحق ، وهداية الخلق ، وما لا يحصى من الأتباع ، وما لا يحصر من الغنائم ، والنصر على الأعداء ، وما لا ينقطع من الذرية التي تنسب إليك فتذكر بذكرهم ، ويصلى ويسلم عليك وعليهم ، ثم من الشفاعة العظمى يوم الفزع الأكبر والحوض الذي يرده المؤمنون في المحشر ، فلفظ " الكوثر " يشمل كل هذا وغيره ، وإنما يكون كل نوع منه في وقته ، وكان الإخبار به في أول الإسلام من البشارة ونبأ الغيب ، وذكر بلفظ الماضي لتحقق وقوعه كقوله : ( أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) ( 16 : 1 ) أو على معنى الإنشاء . . . فأين هذا اللفظ في نفسه وفي موافقته لمقتضى الحال من كلمة " الجماهر " التي استبدلها به مسيلمة الكذاب وهي بالضم الشيء الضخم - أو كلمة " الجواهر " التي ذكرها المبشر المرتاب السباب ، وهي كذب لا مناسبة له ؟
ووصل تعالى هذه البشارة العظمى بالأمر بشكرها فقال : ( فصل لربك ) ومتولي أمرك الذي من عليك بهذه النعم وحده مخلصا له الدين ، ( وانحر ) ذبائح نسكك له وحده ، فهو كقوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) ( 6 : 162 ) وهذا يدل على أنه سيكون له الغلب على المشركين ، الذي يتم بفتح مكة وبحجه ونسكه مع أتباعه - وقد كان - ونحر - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع مائة ناقة ، فهذه بشارة خاصة بعد تلك البشارة العامة ، وكلاهما من أنباء الغيب .
ثم قفى على ذلك ببشارة ثالثة : هي تمام الرد على أولئك الطغاة المغرورين بأموالهم وأولادهم أوردها مفصولة غير موصولة بالعطف على ما قبلها ؛ لأنها جواب عن سؤال تقديره : وماذا تكون عاقبة شانئيه ومبغضيه الذين رموه بلقب الأبتر وتربصوا به الدوائر لما يرجون من انقطاع ذكره واضمحلال دعوته ؟ فأجاب : ( إن شانئك ) أي مبغضك وعائبك بالفقر وفقد العقب ( هو الأبتر ) من دونك - وهذا إخبار آخر بالغيب قد صح وتحقق بعد كر السنين ، ولفظ " شانئ " مفرد مضاف فمعناه عام ، فهو يشمل العاص بن وائل وعقبة بن أبي معيط وأمثالهم ممن نقل عنهم ذلك القول فيه - صلى الله عليه وسلم - لفظا أو موافقة لإخوانهم المجرمين ، فقد بتروا كلهم وهلكوا ، ثم نسوا كأنهم ما وجدوا ، وزال ما كانوا يرجون [ ص: 191 ] من بقاء الذكر بالعظمة والرياسة وكثرة الولد والعصبية ، فلم يعد أحد منهم يذكر بخير ، ولا ينسب له عقب .
فأنت ترى أن هذه السورة على إيجازها في منتهى الفصاحة والبلاغة ، قد جمعت من المعاني الكثيرة الصحيحة ، ومن أنباء الغيب التي فسرها الزمان ما تعد به معجزة بينة الإعجاز ، وفيها من المعاني واللطائف غير ما ذكرنا ، فيراجع تفسيرها ( في مفاتيح الغيب ) وغيره من المطولات .