[ ص: 288 ] قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما .
روى عن البخاري ابن عباس إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، وأخرجه أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل ، فأنزل الله ابن مردويه وسمى منهم في روايته قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبا القيس بن الفاكه بن المغيرة والوليد بن عتبة بن ربيعة وعمرو بن أمية بن سفيان وعلي بن أمية بن خلف ، وذكر في شأنهم أنهم خرجوا إلى بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين دخلهم شك وقالوا : غر هؤلاء دينهم ( 8 : 49 ) ، فقتلوا ببدر .
وأخرجه ، وزاد منهم ابن أبي حاتم الحارث بن زمعة بن أسود ، والعاص بن منبه بن الحجاج ، وأخرج عن الطبراني قال : ابن عباس بمكة قد أسلموا ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كرهوا أن يهاجروا وخافوا ، فأنزل الله إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلى قوله : إلا المستضعفين ، وأخرج كان قوم ابن المنذر عن وابن جرير قال : ابن عباس أهل مكة قد أسلموا ، وكانوا يخفون الإسلام ، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر فأصيب بعضهم ، فقال المسلمون : هؤلاء كانوا مسلمين فأكرهوا فاستغفروا لهم ، فنزلت الآية فكتبوا بها إلى من بقي بمكة منهم وأنه لا عذر لهم فخرجوا ، فلحق [ ص: 289 ] بهم المشركون ففتنوهم فرجعوا ، فنزلت ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ( 29 : 10 ) ، فكتب إليهم المسلمون بذلك فتحزنوا ، فنزلت : ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ( 16 : 110 ) ، الآية ، فكتبوا إليهم بذلك فخرجوا فلحقوهم فنجا من نجا وقتل من قتل ، وأخرج كان قوم من من طرق كثيرة نحوه ، انتهى من لباب النقول . ابن جرير
أقول : هذه الآيات في الهجرة نزلت في سياق أحكام القتال ; لأن بلاد العرب كانت في ذلك العهد قسمين : دار هجرة المسلمين ومأمنهم ، ودار الشرك والحرب ، وكان غير المسلم في دار الإسلام حرا في دينه لا يفتن عنه ، وحرا في نفسه لا يمنع أن يسافر حيث شاء .
وأما المسلم في دار الشرك فكان مضطهدا في دينه يفتن ويعذب لأجله ، ويمنع من الهجرة إن كان مستضعفا لا قوة له ولا أولياء يحمونه ، وكانت الهجرة لأجل هذا واجبة على كل من يسلم ليكون حرا في دينه آمنا في نفسه ، وليكون وليا ونصيرا للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين الذين كان الكفار يهاجمونهم المرة بعد المرة ، وليتلقى أحكام الدين عند نزولها ، وكان كثير منهم يكتم إيمانه ويخفي إسلامه ليتمكن من الهجرة ، وفي مثل هذه الحال ينقسم الناس بالطبع إلى أقسام منهم من ذكرنا ، ومنهم القوي الشجاع الذي يظهر إيمانه وهجرته وإن عرض نفسه للمقاومة ، ومنهم من يؤثر البقاء في وطنه بين أهله ; لأنه لضعف إيمانه يؤثر مصلحة الدنيا التي هو فيها على الدين ، ومنهم الضعيف المستضعف الذي لا يقدر على التفلت من مراقبة المشركين وظلمهم ، ولا يدري أية حيلة يعمل ولا أي طريق يسلك ، وقد بين الله حكم أو أرادها ، من يترك الهجرة لضعف دينه وظلمه لنفسه مع قدرته عليها له فقال : ومن يتركها لعجزه وقلة حيلته وظلم المشركين
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم إلخ ، توفى الشيء أخذه وافيا تاما ، وتوفي الملائكة للناس عبارة عن قبض أرواحهم عند الموت ، ولفظ توفاهم هنا يحتمل أن يكون فعلا ماضيا ، أي : توفتهم الملائكة ، وكل من تذكير الفعل وتأنيثه جائز هنا ، وعلى هذا تكون العبارة حكاية حال ماضية ، ويكون سحب حكمهم على جميع من كانت حاله مثل حالهم بطريق القياس ، ويحتمل وهو الأقرب أن يكون فعلا مستقبلا حذفت منه إحدى التاءين فيكون الحكم فيه عاما بنص الخطاب ، والمعنى أن الذين تتوافاهم الملائكة بقبض أرواحهم عند انتهاء آجالهم حالة كونهم ظالمي أنفسهم بعدم إقامة دينهم وعدم نصره وتأييده ، وبرضاهم بالإقامة في الذل والظلم حيث لا حرية لهم في أعمالهم الدينية قالوا فيم كنتم ، أي : تقول لهم الملائكة بعد توفيها لهم ، وفيه التفات على الوجه المختار - في أي شيء كنتم من أمر دينكم ؟ [ ص: 290 ] قال في الكشاف : معنى فيم كنتم ، التوبيخ بأنهم لم يكونوا في شيء من الدين حيث قدروا على المهاجرة ولم يهاجروا ، يعني أن الاستفهام يراد به التوبيخ على شيء معلوم ، لا حقيقة الاستعلام عن شيء مجهول ، يعني أن الاستفهام يراد به التوبيخ على شيء معلوم ، ولهذا حسن في جوابه قالوا كنا مستضعفين في الأرض ، وهو اعتذار من تقصيرهم الذي وبخوا عليه بالاستضعاف ، أي : إننا لم نستطع أن نكون في شيء يعتد به من أمر ديننا لاستضعاف الكفار لنا ، فرد الملائكة هنا العذر عليهم و قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ، وتحرروا أنفسكم من رق الذل الذي لا يليق بالمؤمن ولا هو من شأنه ؟ أي إن استضعاف القوم لكم لم يكن هو المانع لكم من الإقامة معهم في دارهم ، بل كنتم قادرين على الخروج منها مهاجرين إلى حيث تكونون في حرية من أمر دينكم ولم تفعلوا فأولئك مأواهم جهنم ، قيل : إن هذا هو خبر إن الذين توفاهم الملائكة ، وقيل : بل خبره قوله : قالوا فيم كنتم ، وقيل : محذوف ، ومعنى الجملة سواء كانت هي الخبر أم لا لأن أولئك الذين لم يكونوا على شيء يعتد به من أمر دينهم لإقامتهم بين الكفار الذين يصدونهم عن ذلك مأواهم ومسكنهم في الآخرة نار جهنم وساءت مصيرا ، أي وقبحت جهنم مأوى ومصيرا لمن يصير إليها ; لأن كل ما فيها يسوءه لا يسره منه شيء ، قيل : إنه توعدهم بجهنم كما يتوعد الكفار ; لأن ، وقيل : بل كانوا من المنافقين الذين أظهروا الإسلام ولم يتبطنوه ، وهناك وجه آخر هو الذي يلجأ إليه في مثل هذا جمهور الفقهاء ، وهو أن جهنم تكون لهم مأوى مؤقتا على قدر تقصيرهم ، وما فاتهم من الفرائض في الإقامة مع الكفار تحت سلطانهم ، وما عساهم افترقوا ثم من المعاصي . الهجرة للقادر كانت شرطا لصحة الإسلام
قال في الكشاف بعد تفسير الآية : وهذا دليل على أن كما يجب لبعض الأسباب والعوائق عن إقامة الدين لا تنحصر أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله ، وأدوم على العبادة ، حقت عليه المهاجرة ، ثم ختم الكلام فيها بدعاء أبان فيه أنه إنما هاجر إلى الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه مكة فرارا بدينه ليتمكن من إقامته كما يجب .
وهاك ما عندي في الآية عن درس الأستاذ الإمام : ذكر - تعالى - في الآية السابقة فعلم أن العاجز معذور ، ومعنى سبيل الله الطريق الذي يرضيه ويقيم دينه ، ثم ذكر حال قوم أخلدوا إلى السكون وقعدوا عن نصر الدين بل وعن إقامته حيث هو ، وعذروا أنفسهم بأنهم في أرض الكفر حيث اضطهدهم الكافرون ومنعوهم من إقامة الحق وهم عاجزون عن مقاومتهم ، ولكنهم في الحقيقة غير معذورين ; لأنه كان يجب عليهم الهجرة إلى المؤمنين الذين يعتزون بهم ، فهم بحبهم لبلادهم ، وإخلادهم إلى الأرض ، وسكونهم إلى أهليهم ومعارفهم ، ضعفاء في الحق لا مستضعفون ، وهم بضعفهم هذا قد حرموا أنفسهم بترك الهجرة من خير الدنيا بعزة المؤمنين ، ومن خير [ ص: 291 ] الآخرة بإقامة الحق ، فظلمهم لأنفسهم عبارة عن تركهم العمل بالحق خوفا من الأذى ، وفقد الكرامة عند عشرائهم المبطلين ، وهذا الاعتذار هو نحو مما يعتذر به الذين جاروا أهل البدع على بدعهم في هذا العصر ، وفي كثير من الأعصار ، يعتذرون بأنهم يجبون الغيبة عن أنفسهم ويدارون المبطلين ، وهو عذر باطل ، فالواجب عليهم إقامة الحق مع احتمال الأذى في سبيل الله ، أو الهجرة إلى حيث يتمكنون من إقامة دينهم ، وللفقهاء خلاف في الهجرة ، هل وجوبها مضى أو هو مستمر في كل زمان ؟ والمالكية على الوجوب ( قال ) : ولا معنى عندي للخلاف في وجوب فضل المجاهدين في سبيل الله على القاعدين لغير عجز ، أو يؤذى فيه إيذاء لا يقدر على احتماله ، وأما المقيم في دار الكافرين ، ولكنه لا يمنع ولا يؤذى إذا هو عمل بدينه ، بل يمكنه أن يقيم جميع أحكامه بلا نكير فلا يجب عليه أن يهاجر ، وذلك كالمسلمين في بلاد الإنكليز لهذا العهد ، بل ربما كانت الإقامة في دار الكفر سببا لظهور محاسن الإسلام ، وإقبال الناس عليه اهـ ، أي : إذا كان المسلمون المقيمون هنالك على حريتهم يعرفون حقيقة الإسلام ، ويبينونها للناس بالقول والعمل والأخلاق والآداب . الهجرة من الأرض التي يمنع فيها المؤمن من العمل بدينه