فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف أي فبسبب نقض أهل الكتاب لميثاقهم الذي واثقهم الله به إذ نكثوا فتله ، وأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله ، وكفرهم بآيات الله التي أراهم منها ما لم يره سواهم ، وقتلهم الأنبياء الذين بعثوا لهدايتهم ، كزكريا ويحيى عليهما السلام ، وقولهم : قلوبنا غلف ، وغير ذلك من سيئاتهم التي يذكر أهم كبائرها في الآيات الآتية ; أي بسبب هذا كله فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والغضب وضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال ; لأن هذه الذنوب قد مزقت نسيج وحدتهم ، وفرقت شمل أمتهم ، وذهبت بريحهم وقوتهم ، وأفسدت جميع أخلاقهم ، فكل ما حل بهم من البلاء هو أثر ذلك النقص والكفر والعصيان .
فعلم من هذا أن قوله تعالى : فبما نقضهم متعلق بمحذوف يدل عليه ما عرف من حالهم في القرآن ، وفي التاريخ والعيان ، ومثل هذا الحذف كثير في الكلام ، وكلمة " ما " الفاصلة بين الباء وقوله : " نقضهم " تفيد التأكيد سواء كانت مزيدة في الإعراب ، أو نكرة تامة ومجرورة بالباء ، و " نقضهم " بدل منها ، وقيل : إنه متعلق بقوله تعالى في الآية الآتية : [ ص: 15 ] حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ( 4 : 160 ) كأنه قال : فبسبب نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم ، وقتلهم الأنبياء ، وقولهم : قلوبنا غلف ، وبكفرهم بعد ذلك بعيسى ، وافترائهم على أمه ، وتبجحهم بدعوى قتله ، وبظلمهم في غير ذلك من أعمالهم ، وأحكامهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم إلخ . فيكون قوله ، تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم إلخ بدلا من قوله : فبما نقضهم ميثاقهم ومثل هذا معهود في الكلام إذا طال ، ولكن اعترض هذا من جهة المعنى لا الإعراب ، وذلك أن تحريم تلك الطيبات عليهم كان قبل هذه الجرائم التي منها قتل الأنبياء ، وبهت المسيح ووالدته العذراء ، وأن تحريم بعض الطيبات عليهم عقاب قليل لا يقابل هذه الموبقات كلها . بل هو قليل على أي واحدة منها ، فهو إنما كان جزاء على ما دون هذه الموبقات من ظلمهم لأنفسهم .
وأما قولهم : قلوبنا غلف فذكر المفسرون فيه وجهين :
أحدهما : أن " غلف " جمع " أغلف " وهو الذي عليه غلاف يمنع نفوذ الشيء إليه أي إن قلوبهم لا ينفذ إليها شيء مما جاء به الرسول ; فهي لا تدركه ، وهو لا يؤثر فيها كما حكى الله - تعالى - عن المشركين وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ( 41 : 5 ) .
وثانيهما : أنه جمع غلاف ( ككتاب ، وكتب ) وسكنت اللام فيه كما تسكن في الكتب ، والرسل ، والمعنى أنها أوعية وغلف للعلوم والمعارف ; فهي لا تحتاج إلى شيء جديد تستفيده من الرسول ، أو من غيره .
وقد رد الله - تعالى - عليهم هذا الزعم بقوله : بل طبع الله عليها بكفرهم أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع . بل طبع الله عليها بكفرهم ; أي كان كفرهم الشديد وما له من الأثر القبيح في أخلاقهم وأعمالهم ، سببا للطبع على قلوبهم أي جعلها كالسكة المطبوعة ، ( الدراهم مثلا ) في قسوتها ، وتكيفها بطبعة خاصة لا تقبل غيرها من النقوش ; فهم بجمودهم على ذلك الكفر التقليدي ، ولوازمه لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار ، ولا يتأملون فيه تأمل الإخلاص والاستبصار ، وإنما النظر والتأمل من الأمور الممكنة التي ينالها كسبهم ، ويصل إليها اختيارهم ، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا ، ومن لم ينظر لم يبصر ، ومن لم يبصر لم يؤمن فلا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان ; كإيمانهم بموسى والتوراة ، وهو إيمان لا يعتد به ; لأنه على ضعفه في نفسه تفريق بين الله ورسله ، وتقدم بيان هذا ، أو إلا قليلا منهم ; ، وأصحابه ، وكذلك كان . كعبد الله بن سلام