( القول بهجرة المسيح إلى الهند ) وموته في بلدة ( سرى نكرا ) في كشمير
يوجد في بلدة سرى نكرا و " نقر " ( والهنود تكتب " نكر " بالكاف المفخمة ، وهي كالجيم المصرية ) مقبرة فيها مقام عظيم يقال هناك : إنه مقام نبي جاء بلاد كشمير من زهاء ألف وتسعمائة سنة يسمى بوزآسف ، ويقال إنه اسمه الأصلي عيسى صاحب ( وكلمة صاحب في الهند لقب تعظيم كلقب أفندي عند الترك ومستر ومسيو عند الإفرنج ) وإنه نبي من بني إسرائيل ، وأنه ابن ملك . وإن هذه الأقوال مما يتناقله أهل تلك الديار عن سلفهم ويذكر في بعض كتبهم ، وإن دعاة النصرانية الذين ذهبوا إلى ذلك المكان لم يسعهم إلا أن قالوا : إن ذلك القبر لأحد تلاميذ المسيح أو رسله .
ذكر ذلك بالتفصيل غلام أحمد القادياني الهندي في كتابه الذي سماه ( الهدى والتبصرة لمن يرى ) وذكر فيه أنه اكتفى بالإجمال ، وأن تفصيل هذه المسألة يوجد في كتاب معروف هناك اسمه ( إكمال الدين ) وذكر أكثر من سبعين اسما من أسماء أهل ذلك البلد الذين قالوا : إن ذلك القبر هو قبر عيسى ابن مريم . ورسم صورة المقبرة بالقلم ، وأما قبر المسيح فوضعه في الكتاب بالرسم الشمسي ( الفوتوغرافي ) مكتوبا عليه ( مقبرة عيسى صاحب ) .
وغلام أحمد هذا يفسر الإيواء في قوله ، تعالى : وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ( 23 : 50 ) [ ص: 36 ] بالهجرة إلى الهند واللجأ إلى تلك البلدة في كشمير ، فإن الإيواء يستعمل في مقام الإنقاذ والتنجية من الهم والكرب والمصائب والمخاوف ، واستشهد بقوله تعالى : ألم يجدك يتيما فآوى ( 93 : 6 ) وقوله : واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ( 8 : 26 ) وقوله حكاية عن ولد نوح : سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ( 11 : 43 ) والربوة المكان المرتفع ، وبلاد كشمير من أعلى بلاد الدنيا ، وهي ذات قرار مكين ، وماء معين ، والمشهور عند المفسرين أن هذه الربوة هي رملة فلسطين أو دمشق الشام ، ولو آوى الله المسيح وأمه إليهما لما خفي مكانهما فيهما ، لا سيما إذا كان ذلك بعد محاولة صلبه وتألب اليهود عليه ، كما يدل عليه لفظ الإيواء الذي لم يستعمل في القرآن إلا في الإنقاذ من المكروه ، كما علم من الأمثلة المذكورة آنفا ، ومثلها قوله - تعالى - في الأنصار رضي الله عنهم : والذين آووا ونصروا ( 8 : 72 ) وفي يوسف عليه السلام : آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون ( 12 : 69 ) وفي آية أخرى : فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ( 12 : 99 ) ولم يكن المسيح قبل تألب اليهود عليه والسعي لقتله وصلبه في مخافة يحتاج فيها إلى الإيواء في مأمن منهم ، ففراره إلى الهند وموته في ذلك البلد ليس ببعيد عقلا ولا نقلا .
( الشبهة السابعة ) يقولون : إنكم تأخذون بقول إنجيل برنابا وغيره بالموضوع ، وأقوال مبتدعة النصارى الأولين الذين زعموا أن يهوذا هو الذي صلب لا المسيح مع أن يهوذا قد انتحر كما ثبت في الإنجيل .
ونقول في الجواب : اتفقت النصارى على القول بأن يهوذا الإسخريوطي هو الذي دل على يسوع المسيح وكان يهوذا رجلا عاميا من بلدة تسمى ( خريوت ) في أرض يهوذا ، تبع المسيح وصار من خواص أتباعه الذين يلقبونهم بالتلاميذ الاثني عشر الذين بشرهم بأنهم يكونون معه في الملكوت على اثني عشر كرسيا ، ويدينون بني إسرائيل ; أي يحاسبونهم في يوم الدين ، ومن الغريب أن يهوذا كان يشبه المسيح في خلقه ، كما نقل ( جورج سايل ) الإنكليزي في ترجمته للقرآن المجيد فيما علقه على سورة آل عمران ، وعزا هذا القول إلى ( السيرتثيين والكربوكراتيين ) من أقدم فرق النصارى الذين أنكروا صلب المسيح وصرحوا بأن الذي صلب هو يهوذا الذي كان يشبهه شبها تاما .
وقالوا : إن يهوذا أسف وندم على ما كان من إسلامه المسيح إلى اليهود حتى حمله ذلك على بخع نفسه ( الانتحار ) فذهب إلى حقل ، وخنق نفسه فيه ( متى 27 : 3 - ) 10 ) أو علقها ( أعمال 1 : 18 ) وغرضنا من هذا الخبر بيان أنهم معترفون بأن يهوذا فقد بعد حادثة [ ص: 37 ] الصلب ، ولم يظهر في الوجود ، وأنهم يدعون أن سبب هذا هو قتل نفسه من الحزن والأسف ، واختلف الرسل في كيفية القتل وإن كانوا معصومين ( ؟ ) ونحن نرى أنه إنما فقد لأنه هو الذي صلب ، والمسيح هو الذي نجاه الله - تعالى - ورفعه ، فإن الذي يحمله انفعاله وألم نفسه على أن يبخع نفسه بيده خنقا أو شنقا لا يستبعد منه أن يبسلها بالاستسلام إلى من يتولى ذلك عنه فإنه أهون عليه ، فمن المعقول أن يكون يهوذا عندما دل اليهود على المسيح في الليل رأى بعينيه عناية الله - تعالى - بإنجائه وإنقاذه من بين أيديهم ( كما أنجى أخاه محمدا عليهما الصلاة والسلام من أيدي كفار قريش وكانوا أشد معرفة له من معرفة اليهود للمسيح ; لأنهم لم يكونوا يحتاجون إلى بذل المال لمن يدلهم عليه كما بذلت اليهود ثلاثين قطعة من الفضة ليهوذا . فخرج ليلة الهجرة من بين الذين كانوا ينتظرونه عند داره ليقتلوه ، ولم يبصروه ) فلما رأى يهوذا ذلك وعلم درجة عناية الله - تعالى - بعبده ورسوله عظم ذنبه في نفسه واستسلم للموت ليكفر الله عنه ذنبه كما كفر ذنب الذين اتخذوا العجل من بني إسرائيل بقتل أنفسهم ، فأخذوه وصلبوه من غير مقاومة تذكر . فرواية الإنجيل وسفر الأعمال عن وجدانه مخنوقا أو مشنوقا غير مسلمة ، وقد تعارض القولان فتساقطا ، ووجب اعتماد قول برنابا الذي أخذ به بعض قدماء النصارى .
وإذا كان إيمان يهوذا قويا إلى هذه الدرجة - درجة الانتحار والبخع من ألم الذنب - فليت شعري لماذا لا تقبل توبته ولا ينفعه إيمانه حتى ادعوا أنه مات كافرا ، وأن كرسيه في الملكوت سيبقى خاليا ، وبشارة المسيح له لا تكون صادقة ، ولماذا تقبل توبة بطرس الذي أنكر المسيح وتركه ، ولعنه المسيح في حياته وسماه شيطانا ، على أن توبته دون توبة يهوذا ، وما كان يهوذا إلا متمما لذريعة الفداء التي هي أساس الدين عندهم ؟ الشبهة الثامنة : يقولون : إن المسيح قد قام من قبره بعد موته ودفنه وظهر للنساء ولتلاميذه ولأناس آخرين ، وأرى بعضهم أثر المسامير في جسده ، وقد اتفقت على قيامه جميع الأناجيل ، فكيف يجمع بين هذا وبين القول بأن الذي صلب غيره ؟ ونقول أولا : إنه لا ثقة لنا برواية هذه الأناجيل ، وبينا الدلائل على عدم الثقة بها بالاختصار ، ومنها تعارضها في هذه المسألة ونبينها هنا بشيء من التطويل . وثانيا : إنه يحتمل أن يكون لهذه الدعوى سبب ثم توسع القوم فيها كما هي عادتهم في الروايات عن العجائب والمستغربات حتى تسنى لبولس ومريديه أن يفرغوها في هذا القالب الذي نراه في كتب العهد الجديد ، وسترى بيان هذا قريبا .
أما البيان الأول : ففي إنجيل متى أن مريم المجدلية ومريم الأخرى ( أي أم يعقوب ) جاءتا وقت الفجر لتنظرا القبر فوجدتا الملك قد دحرج الحجر وجلس عليه فأخبرهما [ ص: 38 ] أن يسوع قام منه وسبق تلاميذه إلى الجليل ، وهناك يرونه ، فذهبتا لتخبرا التلاميذ ، فلاقاهما يسوع ، وسلم عليهما ، وقال لهما كما قال الملك ( راجع 28 متى وهو الفصل الأخير ) .
وفي الفصل الأخير من مرقس أن النساء كن ثلاثا ، الثالثة سالومة ، وأنهن جئن القبر عند طلوع الشمس ، وأنهن رأين الحجر مدحرجا ولم يقل كمتى : إن الملك كان قاعدا عليه ، بل قال : إنهن وجدن في القبر شابا عن اليمين ، وإنه قال لهن : " اذهبن ، وقلن لتلاميذه ، ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل " فزاد عطف بطرس على التلاميذ ، وقال : إنهن هربن ولم يقلن لأحد شيئا ; إذ أخذتهن الرعدة والحيرة وكن خائفات ، ثم قال : إنه ظهر أولا لمريم المجدلية ( أي دون من كان معها خلافا لمتى ) فذهبت وأخبرت الذين كانوا معه فلم يصدقوا ، ثم ظهر بهيئة أخرى لاثنين وهما منطلقان إلى البرية ، فأخبرا الباقين فلم يصدقوا ( 14 ) أخيرا ظهر للأحد عشر وهم متكئون ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام ، وهذا مما زاده على متى .
وأما لوقا فلم يقل : إن النساء اللواتي جئن لافتقاد القبر هن الثلاث اللواتي ذكرهن مرقس ، ولا الثنتان اللتان اقتصر عليهما متى ، بل ذكر أنهن نساء كن جئن من الجليل مع يوسف الذي دفن يسوع ، ونظرن القبر والدفن . وأنهن جئن أول الفجر ، لا عند طلوع الشمس ، كما قال مرقس ، وأنهن وجدن الحجر مدحرجا فدخلن القبر ، ولم يجدن الجسد فيه ، ولم يقل إنهن وجدن شابا فيه عن اليمين ، كما قال مرقس ، ولا الملك على الحجر خارجه ، كما قال متى . بل قال إنهن بينما كن متحيرات إذا رجلان وقفا بهن بثياب براقة ، وقالا لهن : لماذا تطلبن الحي بين الأموات ( وهذا تعبير قد يؤيد قول من قالوا : إنه لم يمت وذكرهن بقوله : إنه يسلم ويصلب وفي اليوم الثالث يقوم . ولم يأمرهن بإخبار التلاميذ بأن يسبقوه إلى الجليل ، وأنهم هناك يرونه ، كما قال متى ومرقس ، وقال : إنهن رجعن وأخبرن الأحد عشر وجميع الباقين بهذا كله ) فخالف مرقس الذي قال : إنهن لم يقلن شيئا . وقال : إن هؤلاء النسوة هن مريم المجدلية وبونا ومريم أم يعقوب والباقيات معهن . وإن التلاميذ وجميع الباقين لم يصدقوهن ; إذ تراءى لهم كلامهن كالهذيان .
ثم ذكر أنه ( أي يسوع ) مشى مع اثنين منهم كانا منطلقين إلى قرية عمواس ، وهي على 60 غلوة من أورشليم ( خلافا لمرقس الذي قال : لاثنين منطلقين إلى البرية ) وقال : إن أعينهما أمسكت عن معرفته ، وأنهما ذكرا قصته ، وأنه كان " إنسانا نبيا " وأنه وبخهما ووصفهما بالغباوة وبطء القلوب في الإيمان ، وأنهما ضيفاه في القرية ، وأنه لما اتكأ معهما [ ص: 39 ] وأخذ خبزا وبارك وكسر وناولهما ، انفتحت أعينهما ، فعرفاه ، ثم اختفى عنهما ، وأنهما في تلك الساعة رجعا إلى أورشليم ووجدا الأحد عشر ( هكذا مع أن الظاهر أنهما منهم فيكون الباقي تسعة ) مجتمعين هم والذين معهم ، ويقولون : إنه ظهر لسمعان . فأخبراهم خبرهما . ولم يلبث أن ظهر لهم ، وأكل معهم .
وأما يوحنا فقد خالف الثلاثة فذكر في الفصل ( 20 ) أن مريم المجدلية جاءت إلى القبر باكرا ، والظلام باق ، فنظرت الحجر مرفوعا ، فركضت إلى سمعان بطرس وإلى التلميذ الآخر الذي كان يسوع يحبه ، وقالت لهما : أخذوا السيد من القبر . فركضا إلى القبر ، ودخلا فيه ; فرأيا الأكفان موضوعة ، وكانت مريم تبكي خارج القبر ، ثم انحنت إلى القبر فنظرت ملكين جالسين ; واحدا عند الرأس ، والآخر عند الرجلين ، وبعد الكلام معهما عن سبب بكائها ، التفتت إلى الوراء ، فنظرت يسوع واقفا فلم تعرفه ، وظنت أنه البستاني ، ثم تعرف إليها ، وأمرها أن تخبر التلاميذ بقوله " إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " فأخبرتهم .
ثم ذكر أن التلاميذ كانوا مجتمعين عشية ذلك اليوم ، والأبواب مغلقة ، خوفا من اليهود ، فجاء يسوع ووقف في الوسط وسلم عليهم . وأن توما لم يكن معهم فظهر له بعد ثمانية أيام ، ثم ذكر في الفصل ( 21 ) أنه أظهر نفسه للتلاميذ على بحر طبرية فلم يعرفوه أولا ، ثم اصطادوا سمكا بأمره وحضر غداءهم .
هذا ، ويرى المتأمل فيها أنها متعارضة متناقضة . ومن الغريب أنه لم يصرح أحد منهم ، بأنه ظهر لهم في ملخص دعوى قيام يسوع من القبر برواية الأناجيل الأربعة الجليل ، كما نقلوا عنه وعن الملك أو الملكين . والقاعدة الأصولية في المتعارضين إذا لم يمكن الجمع بينهما ، ولا ترجيح أحدهما على الآخر أن يقال : " تعادلا فتساقطا " وبهذه القاعدة التي لا مندوحة عن القول بها في هذه القصة وغيرها من التعارض في هذه الأناجيل - اتقاء الوقوع في الترجيح بغير مرجح ، نقول : إن روايات الأربعة ساقطة لا يعتد بشيء منها . فهذا هو بيان الوجه الأول من وجهي الجواب .
وأما الوجه الثاني المبني على احتمال أن يكون لهذه الدعوى سبب أو أصل بني عليه ; فبيانه : أنه يحتمل أن يكون قد شاع في ذلك الوقت أن يسوع قد قام من قبره ، وأنه رآه بعض النساء وبعض تلاميذه ، واضطربت الأقوال في ذلك فكتب كل مؤلف إنجيل ما سمعه ، وأن يكون سبب الإشاعات تخيل مريم المجدلانية العصبية المزاج ( التي روت هذه الأناجيل أن المسيح أخرج منها سبعة شياطين ) أنها رأت المسيح وكلمته . ويجوز أن تكون الرؤية الخيالية اتفقت لغيرها أيضا من التلاميذ أو غيرهم بعد أن سمعوها منها ، ومثل هذا يقع كثيرا ، كما سيأتي بيانه بالشواهد .
[ ص: 40 ] وأمثال هؤلاء العامة لا يقدرون على التمييز بين الحقيقة والخيال . ألم تر أنهم يروون أن المسيح وبخهم على غباوتهم ، وضعف إيمانهم بعد أن كانوا عاشروه زمنا رأوا فيه ما أيده الله - تعالى - به من الآيات ، أولم تر أنهم ما كان بعضهم يصدق بعضا . بل يتهم بعضهم بعضا بالكذب والهذيان ، وأنهم لضعفهم تركوا نبيهم وقت الشدة ، وأنكره أمثلهم ، وارتشى عليه بعضهم . فأمثال هؤلاء الصيادين والنساء ، لا يستغرب منهم عدم التمييز بين الحقيقة والخيال ، وطالما وقع مثل ذلك في حال الانفعالات العصبية للناس ، كالحزن والخوف والعشق ، يتراءى للإنسان في مثل هذه الأحوال شخص يكلمه زمنا طويلا أو قصيرا كما يحصل في الرؤى والأحلام . وبعضهم يعد هذا من رؤية الأرواح ، وقد راجت سوق هذه المسألة في أوربة في هذا العصر حتى صاروا يزعمون أن فيهم من يستحضر الروح ، وكان هذا معروفا في الزمن السابق ; ولذلك احترس عنه بعض مؤلفي هذه الأناجيل ، فقال : إنه لما ظهر لهم خافوا وظنوا أنهم يرون روحا ، فنفى هو ذلك .
وقد كنا بينا هذه المسألة في كتابنا ( الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية ) الذي ألفناه في زمن التحصيل . ومما قلناه فيه : إن الصوفية يفرقون بين رؤية الأرواح والرؤية الخيالية . ومما أوردناه عن صاحب كتاب الذهب الإبريز من القسم الثاني : واقعة جرت في بلدهم ( فاس ) قال : أخبرني بعض الجزارين أنه مات له ولد كان يحبه كثيرا ، وأنه لم يزل شخصه في فكره حتى إن عقله وجوارحه كانت كلها معه ، فكان هذا دأبه ليلا ونهارا إلى أن خرج ذات يوم إلى باب الفتوح أحد أبواب فاس حرسها الله تعالى لشراء الغنم على عادة الجزارين ، فجال فكره في أمر ولده الميت ، فبينما هو يجول فكره فيه إذ رآه عيانا وهو قادم إليه حتى وقف إلى جنبه . قال فكلمته وقلت له : يا ولدي خذ هذه الشاة - لشاة اشتريتها - حتى أشتري أخرى ، وقد حصلت غيبة قليلة عن حسي ، فلما سمعني من كان قريبا أتكلم مع الولد ، قالوا : مع من تتكلم أنت ؟ فلما كلموني رجعت إلى حسي ، وغاب الولد عن بصري ، فلا يدري ما حصل في باطني من الوجد عليه إلا الله تبارك وتعالى . اهـ .
وما كل ما يقع له مثل هذا يعلم أن هذه رؤية خيالية كالرؤية المنامية ، وإنني أعرف امرأة كبيرة السن من أهل بلدنا ( القلمون ) كانت دائما ترى الموتى ، وتخاطبهم ، وتأنس بخطابهم تارة ، ويظهر عليها الانقباض أخرى . وكان أكثر حديثها مع أخ لها مات غريقا . وكنت أجزم أنا ، وكل من عرفها ، بأنها غير كاذبة ولا متصنعة . بل كانت هائمة في ذلك ، ولا تبالي بشيء .
ولا يغرن العاقل انتشار أمثال هذه الشائعات بين العامة ، وجعلها من القضايا المسلمة ، فإن هذا معهود في الناس في كل عصر ، وقد بينه الفيلسوف العالم الاجتماعي غوستاف لوبون [ ص: 41 ] الفرنسي بيانا علميا في الفصل الثاني من كتابه ( روح الاجتماع ) ومما قاله في بيان قابلية الجماعات للتأثر والتصديق وانخداع الفكر ما يأتي ملخصا :
" إن سرعة تصديق الجماعة ليس هو السبب الوحيد في اختراع الأقاصيص التي تنتشر بين الناس بسرعة . بل لذلك سبب آخر ، وهو التشويه الذي يعتور الحوادث في مخيلة المجتمعين ; إذ تكون الواقعة بسيطة للغاية فتنقلب صورتها في خيال الجماعة بلا إبطاء ; لأن الجماعة تفكر بواسطة التخيلات ، وكل تخيل يجر إلى تخيلات ليس بينها وبينه أدنى علاقة معقولة " .
ولقد كان يجب تعدد صور التشويش التي تدخلها الجماعة على حادثة شاهدتها ، وتنوع تلك الصور ; لأن أمزجة الأفراد الذين تتكون هي منهم مختلفة متباينة بالضرورة ، لكن المشاهد غير ذلك ، والتشويش واجب عند الكل بعامل العدوى ; لأن أول تشويش تخيله واحد من الجماعة يكون كالخميرة تنتشر منه العدوى إلى البقية . فقبل أن يرى جميع الصليبيين القديس جورج فوق أسوار بيت المقدس ، كان بالطبع قد تخيله أحدهم أولا فما لبث التأثر والعدوى أن مثلاه للبقية جسما مرئيا .
هكذا وقعت جميع التخيلات الإجماعية الكثيرة التي رواها التاريخ ، وعليها كلها مسحة الحقيقة لمشاهدتها من الألوف المؤلفة من الناس .
" ولا ينبغي في رد ما تقدم الاحتجاج بمن كان بين تلك الجماعات من أهل العقل الراجح والذكاء الوافر ; لأنه لا تأثير لتلك الصفة في موضوعنا ; إذ العالم والجاهل سواء في عدم القدرة على النظر والتمييز ما داموا في الجماعة ، ورب معترض يقول : إن تلك سفسطة لأن الواقع غير ذلك ، إلا أن بيانه يستلزم سرد عدد عظيم من الحوادث التاريخية ، ولا يكفي لهذا العمل عدة مجلدات ، غير أني لا أريد أن أترك القارئ أمام قضايا لا دليل عليها ، ولذلك سآتي ببعض الحوادث أنقلها بلا انتقاء من بين الألوف من الحوادث التي يمكن سردها .
" وأبدأ برواية واقعة من أظهر الأدلة في موضوعنا ; لأنها واقعة خيال اعتقدته جماعة ضمت إلى صفوفها من الأفراد صفوفا وأنواعا ما بين جاهل غبي ، وعالم ألمعي ، رواها عرضا ربان السفينة ( جوليان فيليكس ) في كتابه الذي ألفه في مجاري مياه البحر ، وسبق نشرها في ( المجلة العلمية ) قال :
" كانت المدرعة ( بيل بول ) تبحث في البحر عن باخرة ( بيرسو ) حيث كانت قد انقطعت عنها بعاصفة شديدة ، وكان النهار طالعا ، والشمس صافية ، وبينما هي سائرة إذا بالرائد يشير إلى زورق يساوره الغرق ، فشخص رجال السفينة إلى الجهة التي أشار إليها ، ورأوا جميعا من عساكر وضباط زورقا مشحونا بالقوم ، تجره سفن تخفق عليها أعلام اليأس والشدة . وكل ذلك كان خيالا ، فقد أنفذ الربان زورقا صار ينهب البحر إنجادا للبائسين .
[ ص: 42 ] فلما اقترب منهم ، رأى من فيه من العساكر والضباط أكداسا من الناس يموجون ويمدون أيديهم ، وسمعوا ضجيجا مبهما يخرج من أفواه عديدة حتى إذا بلغوا المرئي وجدوه أغصان أشجار مغطاة بأوراق قطعت من الشاطئ القريب . وإذ تجلت الحقيقة غاب الخيال .
" هذا المثال يوضح لنا عمل الخيال الذي يتولد عن الجماعة بحال لا تحتمل الشك ، ولا الإبهام كما قررناه من قبل . فهنا جماعة في حالة الانتظار والاستعداد ، وهناك رائد يشير إلى وجود مركب حفه الخطر وسط الماء ، فذلك مؤثر سرت عدواه ، فتلقاه كل من في الباخرة من عساكر وضباط بالقبول والإذعان .
ثم بين المؤلف أن مثل هذا الانخداع يقع للجماعات المؤلفة من العلماء ، فيما هو بعيد عن اختصاصهم العلمي ، واستشهد على ذلك بالواقعة الآتية :
( قال ) : ومن الأمثلة على ذلك ما رواه لنا ( مسيو دافي ) أحد علماء النفس المحققين وقد نشرته حديثا مجلة ( أعصر العلوم النفسية ) وهو : دعا ( مسيو دافي ) جماعة من كبار أهل النظر ; منهم عالم من أشهر علماء إنكلترة وهو ( مستر ولاس ) وقدم لهم أشياء لمسوها بأيديهم ، ووضعوا عليها ختوما كما شاءوا ، ثم أجرى أمامهم جميع ظواهر فن استخدام الأرواح : من تجسيم الأرواح والكتابة على الألواح ، حتى كتبوا له شهادات قالوا فيها : إن المشاهدات التي وقعت أمامهم ، لا تنال إلا بقوة فوق قوة البشر ، فلما صارت الشهادات في يده بين لهم أن جميع ما عمله شعوذة بسيطة جدا . قال راوي الحادثة : ليس الذي يوجب الدهش والاستغراب في هذه المسألة هو إبداع ( دافي ) ومهارته في الحركات التي عملها . بل هو ضعف الشهادات التي كتبها أولئك العلماء " ثم استنتج المؤلف من ذلك أنه : إذا كان انخداع العلماء بما لا حقيقة له واقعا فما أسهل انخداع العامة ! .
ثم ذكر حادثة وقعت في أثناء كتابته لهذا البحث ، وخاضت فيه جرائد باريس ، وكان منشأ الانخداع فيها الشبه الذي هو موضوع بحثنا ، قال ( في ص 50 من النسخة العربية المترجمة ) :
" أنا أكتب هذه السطور ، والجرائد ملأى بذكر غرق بنتين صغيرتين ، وإخراج جثتيهما من نهر ( السين ) عرضت الجثتان ، فعرفهما بضعة عشر شخصا معرفة مؤكدة ، واتفقت أقوالهم فيها اتفاقا لم يبق معه شك في نفس قاضي التحقيق فأذن بدفنهما ، وبينما الناس يتأهبون لذلك ساق القدر البنتين اللتين عرفهما الشهود بالإجماع ، وظهر أنهما باقيتان ولم يكن بينهما وبين المفقودتين إلا شبه بعيد جدا ، والذي وقع هو عين ما وقع في الأمثلة التي سردناها : تخيل الشاهد الأول أن الغريقتين هما فلانة وفلانة ، فقال ذلك ، فسرت عدوى التأثير إلى الباقي " اهـ .
تبين مما تقدم أن الإشاعات التي تبنى على تخيل بعض الناس كثيرة تقع في كل زمان [ ص: 43 ] ومكان ، وينخدع بها العلماء كالعوام ، وإنما بين غوستاف لوبون أنها جارية على سنن الاجتماع ، وليست مما يجهل تعليله من الفلتات والشواذ ، وإننا بعد كتابة ما تقدم بأيام جاءتنا مجلة المقتطف ( الصادرة في 23 من المحرم من هذا العام 1331 ) فقرأنا في مقالة فيها عنوانها ( مناجاة الأرواح والبحث في النفس ) : أن أربعة من علماء الإنجليز وكبار عقلائهم الثقات شاهدوا واقعة من وقائع مستحضري الأرواح ، احتاطوا فيها أشد الاحتياط ; لئلا تكون غشا أو شعوذة ، وكان الوسيط فيها - أي الذي يستحضر الروح - رجلا اسمه ( مستر هوم ) وقد شهد أولئك العلماء الثقات أنهم شاهدوا الروح المستحضر فخاطب كلا منهم باسمه ، وأجابه عما سأله عنه وأن أحدهم سأله : ألك جسم حقيقي أم أنت خيال ؟ فقال : إن جسمي أقوى من جسمك ، فامتحنه بوضع أصبعه في فيه فألفاه حارا ، وأسنانه صلبة حادة ، وعضه عضة صرخ من ألمها .
قال المقتطف بعد ذكر الواقعة : إنه يحتمل أن تكون شعوذة من ( مستر هوم ) أي وإن كان أولئك العلماء قد ربطوا يديه ورجليه بأسلاك من النحاس إلى كرسي متصل بالموقد موثقا بذلك الرباط ، ولحموا الأسلاك بلحام معدني ، وقالوا : إنه لا يمكن لقوة بشرية أن تزيحه من مكانه ما لم تقطع الأسلاك المعدنية ، ثم رأوه بعد مشاهدة الواقعة كما تركوه في قيوده وأغلاله .
( ثم قال المقتطف وهو محل الشاهد ) : " وإذا لم يكن ( هوم ) قد فعل ذلك ، فلا يستحيل أن يكون كوكس وكروكس وغلتون قد خدعوا كلهم فرأوا ما لا يرى وسمعوا ما لا يسمع ; لأنه كما يحتمل أن يفعل بعض الناس أفعالا خارقة ، لا يستطيع غيرهم فعلها ، يحتمل أن يتخيل بعضهم أنهم يرون ويسمعون ما لا حقيقة له في الخارج ، كيف لا ؟ والنائم والحادس يريان ويسمعان ما لا وجود له " .
أقول : فإذا جاز في رأي علماء العصر وفلاسفته أن ينخدع العلماء الطبيعيون وغيرهم بالتخيل ، فكيف لا يجوز أن ينخدع به مثل مريم المجدلية العصبية ( الهستيرية ) وتوما وإخوانه من صيادي السمك ! وإذا جاز أن يتخيل ضباط المدرعة ( بيل بول ) وعسكرها وبحارتها زورقا يساوره الغرق ، فيجزمون بأنهم رأوه بأعينهم ، وهو مكتظ بالمستنجدين المستغيثين ، وهم يرون أيديهم تومئ وتشير ، ويسمعون جلبتهم بالصياح والضجيج ، وإذا جاز أيضا أن يتخيل جماهير الصليبيين القديس جورج فوق أسوار بيت المقدس ; فيظنوا أنهم رأوه حقيقة ، فلماذا لا يجوز مثل هذا التخيل في أولئك الأفراد الذين نقل عنهم أنهم رأوا المسيح بعد حادثة الصلب ، إن صحت الرواية على انقطاع سندها ؟ وإذا جاز أن يجزم بضعة عشر شاهدا في البنتين [ ص: 44 ] اللتين غرقتا في نهر السين جزما مبنيا على ما شبه لهم ، فلماذا لا يجوز أن يجزم بمثل ذلك في يهوذا الذي كان يشبه المسيح من لم يكونوا يعرفون المسيح ؟ !
وقع في عصرنا هذا واقعتان من قبيل مسألة رؤية المسيح ، ورؤية القديس جورج ( إحداهما ) : وقعت في الشام منذ سنين ; وهي أن رجلا اسمه علي راغب اشتغل بالتصوف والرياضة فغلبت عليه الخيالات فكان إذا تخيل شيئا مهما عنده يتمثل له ، كأنه حاضر بين يديه ، وقد اشتغل زمنا بقراءة الأناجيل حتى كان يحفظ منها ما لا يكاد يحفظه أحد من النصارى ، ثم إنه عاشر بعض النصارى في دمشق حتى كان يحضر كنائسهم ، فكثر تخيله لقصة الصلب التي قرأها في الأناجيل فرأى المسيح مرة متمثلا أمامه بالصورة التي ذكروا أنه كان عليها عند الصلب ، ورأى أثر المسامير في يديه ، فاعتقد أن هذه الرؤية حسية حقيقية وخطب في النصارى بذلك ، فصدقوه وقالوا إنه قديس ، وشاعت المسألة ولغط الناس بها ، ثم التقى الشيخ طاهر الجزائري بالشيخ راغب هذا ، وتحدثا في المسألة فلم يفجأه الشيخ طاهر بالتخطئة ، بل شغل باله وخياله بآيات المسيح ، وبما كان له من القدرة على الظهور بأشكال مختلفة ( كما ذكروا في الإنجيل ) وانتقل من هذا إلى مسألة إلقاء شبهه على يهوذا ، وما بينه الله - تعالى - من التشبيه لهم ، فما زال يحدثه بمثل هذا حتى ذهب ، ولقصة الصلب في خياله صورة أخرى ، فرأى المسيح متمثلا أمامه ، وليس في يديه ولا غيرها أثر للصلب ، فسأله عن حقيقة مسألة الصلب فقال له : ألقيت علىيهوذا صورة من صوري فأخذوه وصلبوه ، فذهب الشيخ راغب وخطب في النصارى بهذه الرؤية فنبذوه واعتقدوا أنه مجنون . فهذه الرؤية تشبه رؤية توما للمسيح عليه الصلاة والسلام .
وأما الواقعة الثانية : فهي أن بعض الناس في هذه الأيام تخيل أن الشيخ المتبولي خرج من قبره المعروف بجوار محطة مصر ، ووقف على قبته ، ثم طار في الهواء ، ونزل على الكنيسة الجديدة التي ينشئها اليونانيون ، ولما شاع هذا الخبر في القاهرة ، اجتمع خلق كثير من العامة عند الكنيسة ، وصاروا يهتفون باسم المتبولي ، ففرقتهم الشرطة والشحنة بالقوة ، وادعى كثير منهم أنهم رأوا المتبولي فيها . وروت بعض الجرائد اليومية أن مجذوبا من أبناء السبعين قال : أنا المتبولي ، فصدقه الناس ، وصاروا يتبركون به . ولولا حزم الحكومة لحدث بين عوام المصريين واليونانيين من جراء هذه المسألة فتن سفكت فيها الدماء ، ولكن الحكومة تداركت ذلك ، وفرقت شمل الجماهير ، وقبضت على بعضهم وحبستهم .
هذا ، وإن كثيرا من الصوفية الذين يناجون الأرواح يرون المسيح وأمه كثيرا ، وقد تعرف إلي بعضهم وهو أعجمي من أصحاب المظاهر الدنيوية ، يخفي تصوفه عن أقرانه ، وأخبرني أنه يرى أرواح الأنبياء ، ويتلقى عنهم علوما يكتبها بالعربية ، وأنه رأى عيسى ومريم - عليهما [ ص: 45 ] السلام - مرارا وتلقى عنهما ، ومن ذلك أنه سأل مريم عن تمثل الملك لها ونفخه فيها ، فأجابته عن ذلك ، وأنه حصل من ذلك نحو ما يحصل بالزواج من التلقيح ، وسألته أنا عن استحضار الأرواح الذي نسمعه عن الإفرنج ، هل هو مثل ما يذكره عن نفسه ، ويؤثر عن الصوفية من قبله ؟ فقال : إن بعضه حيل ، وبعضه له أصل دون ما عندنا وأبعد عنه بمراحل . وأنا لا أتهم هذا الرجل بالكذب عن نفسه ، ولا أتهم الإمام فيما رواه عن نفسه من مثل ذلك أيضا ، وإنما أقول إذا كانت هذه الرؤية خيالية أيضا كرؤية الشيخ الغزالي راغب فهي تؤكد ما نحن فيه من جواز مثل ذلك على جماعة المسيح ، وإن كانت حقيقية - وهي ولا شك أعلى وأكمل مما يثبته الكثيرون من علماء الإفرنج - فهي مصدقة لخبر القرآن في قصة المسيح وناقضة لتلك العقيدة الخيالية ، المقرر مثلها عند الأمم الوثنية .