( ) يعلم الخاص والعام أنه ورد في علامات الساعة من الأخبار أنه يخرج رجل من آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له بهاء الله البابي ومسيح الهند القادياني المهدي يملأ الأرض عدلا بعد أن تكون قد ملئت جورا ، وينزل في آخر مدته عيسى ابن مريم من السماء ، فيرفع الجزية ويكسر الصليب ويقتل المسيخ الدجال ، وليس هذا مقام تحرير هذه المسألة ، وإنما اقتضت الحال أن نذكر من ضررها أنها - لانتظار المسلمين لها ، ويأسهم من إعادة عدل الإسلام ومجده بدونها - قد كانت مثار فتن عظيمة . فقد ظهر في بلاد مختلفة وأزمنة مختلفة أناس يدعي كل واحد منهم أنه المهدي المنتظر يخرج على أهل السلطان ويستجيب له كثير من الأغرار ، فتجري الدماء بينهم وبين جنود الحكام كالأنهار ، ثم يكون النصر والغلب للأقوياء بالجند والمال ، على المستنصرين بتوهم [ ص: 48 ] التأييد السماوي وخوارق العادات ، وقد ادعى هذه الدعوة أيضا أناس من الضعفاء أصابهم هوس الولاية والأسرار الروحية ، فلم يكن لهم تأثير يذكر .
كانت آخر فتنة دموية من فتن هذه الدعوى فتنة مهدي السودان ، وكانت قبلها فتنة ( الباب ) الذي ظهر في بلاد إيران ، وأمره مشهور . وقد بنى بعض أتباعه على أساس دعوته بناء من أنقاض تلك الدعوى ، ولكنه جاء أكبر منها ، ذلك المدعي هو ميرزا حسين الملقب ببهاء الله ، ادعى الربوبية وبث دعاته في المسلمين والنصارى وغيرهما ، ومما يدعون به النصارى إلى دينهم قولهم : إن البهاء هو المسيح الموعود به . وقد بينا فتنتهم في ( المنار ) ورددنا عليهم مرارا ، وظهر في الهند رجل آخر سلمي ( بالطبع ) ادعى أنه هو المسيح الموعود به ، وهو ( غلام أحمد القادياني ) الذي نقلنا عن بعض كتبه نبأ التجاء المسيح عيسى ابن مريم إلى الهند ، وهو إنما عني ببيان ذلك ليجعله من مقدمات إثبات دعوته ، وقد كان قبل موته أرسل إلي الكتاب الذي نقلت عنه ما ذكر ، وغيره من كتبه التي يدعو بها إلى نفسه ، فرددت عليه في ( المنار ) فهجاني في كتاب آخر ، وتوعدني بقوله عني : " سيهزم فلا يرى " وزعم أن هذا نبأ وحي جاءه من الله جل وعلا . وقد كان هو الذي انهزم ومات .
كان هذا الرجل يستدل بموت المسيح ورفع روحه إلى السماء كما رفعت أرواح الأنبياء ، على أنه هو المسيح الموعود به ، ولا يزال أتباعه يستدلون بذلك . وقد جرى على طريقة أدعياء المهدوية من شيعة إيران ( كالباب والبهاء ) في استنباط الدلائل الوهمية على دعوته من القرآن حتى إنه استخرج ذلك من سورة الفاتحة ، وله في تفسيرها كتاب في غاية السخف يدعي أنه معجزة له ، فجعلها مبشرة بظهوره ، وبأنه هو مسيح هذه الأمة .
وإنما فتح على هذه الأمة هذا الباب الغريب من أبواب - أولئك الزنادقة من تأويل القرآن وتحريف ألفاظه عن المعاني التي وضعت لها إلى معان غريبة لا تشبهها ولا تناسبها المجوس وأعوانهم الذين وضعوا تعاليم فرق الباطنية ، فراجت حتى عند كثير من الصوفية ، ولمن يستدل بالكلم على ما لا يدل عليه في استعمال لغته أن يستدل بما شاء على ما شاء ، وهو يجد من جاهلي اللغة وفاقدي الاستقلال العقلي من يقبل منه كل دعوى .
والحق أنه ، وأما الأحاديث الواردة في ذلك فهي تخالف دعوى ليس في القرآن نص يثبت أن عيسى ينزل من السماء ويحكم في الأرض القادياني ، فإن منها أنه ينزل في دمشق لا في الهند ، ومنها أنه يقتل الدجال الذي يظهر قبله ، ومنها أنه يحكم ويملأ الأرض عدلا ، ولا يزال الظلم والجور وسفك الدماء مالئا الأرض ، وناهيك بما هو جار ، منها ، في بلاد البلقان في هذه الأيام ، فإن دول البلقان النصرانية ما ظهروا على العثمانيين في مكان إلا وأسرفوا في قتل الكبار والصغار ، والنساء والأطفال ، ونسف ديارهم بالديناميت ، أو إحراقهم بالنار ، [ ص: 49 ] بعد سلب الأموال ، وهتك الأعراض ، وكل هذا يعمل باسم الصليب ورفع شأنه ، فأين هو مما ورد من كسر المسيح للصليب ؟ وما كان القادياني إلا خاضعا لدولة من دول الصليب ، ولكن من شئون البشر أنه لا يدعوهم أحد إلى شيء مهما كان بعيدا عن المعقول والمنقول ، إلا ويجد فيهم من يصدقه ويستجيب له . فنسأل الله التأييد بالهداية ، والحفظ من الغواية ، آمين .