رسلا مبشرين ومنذرين أي أرسلنا أولئك الرسل الذين منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ، رسلا مبشرين من آمن وعمل صالحا بالأجر العظيم ، ومنذرين من كفر وأجرم بالعذاب الأليم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل بأن يدعوا أنهم ما كفروا وأجرموا إلا لجهلهم ما يجب عليهم بهدايتهم من الإيمان والعمل الصالح ، قال ، تعالى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ( 20 : 134 ) [ ص: 60 ] وقال عز وجل : ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين ( 28 : 47 ) ثم قال في هذه السورة وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون ( 28 : 59 ) وقال سبحانه : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ( 17 : 15 ) وقال تبارك اسمه : وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ( 6 : 155 - 157 ) .
المتبادر من الشواهد الأولى أنها في عذاب الدنيا سواء كان بالاستئصال أو فقد الاستقلال ، وهو المشار إليه بالهلاك ، أو بما دون ذلك وهو المشار إليه بالمصيبة ، وأما الشاهد الأخير فيظهر أنه أعم ، وقد جاء بعده الوعيد بسبب العذاب ، والتهديد بقوله : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ( 6 : 158 ) وفيه تهديد بعذاب الدنيا ، أو بالموت وقيام الساعة العامة أو الخاصة ، ويعقب ذلك عذاب الآخرة .
وأما الآية التي نحن بصدد تفسيرها فهي مطلقة ، والمتبادر منها أن من قطع حجة الناس واعتذارهم بالجهل ، عندما يحاسبهم الله - تعالى - في الآخرة ويقضي بعذابهم ، ومفهومه ومفهوم سائر الآيات أنه لولا إرسال الرسل لكان للناس أن يحتجوا في الآخرة على عذابها وعلى عذاب الدنيا الذي كان أصابهم بظلمهم . واستدل بها كثير من العلماء على امتناع مؤاخذة الله الناس وتعذيبهم على ترك الهداية التي لا تعرف إلا من الرسل عليهم السلام ، ويستدلون بآية الإسراء على نجاة أهل الفترة وكل من لم تبلغه الدعوة ، ولما كانوا شيعا تتعصب كل شيعة منهم لمذهب ينسب إلى عميد منهم قدسوه بإشهاره والانتساب إليه صارت كل شيعة تلتمس من الآيات ما يؤيد مذهبها وتؤول ما ينقضه . وعلى هذا الأساس أول بعضهم آية الإسراء بأن المراد بالرسول فيها العقل ، ويرد هذا التأويل سائر الآيات التي بمعناها كالآية التي نفسرها ، فلا يجد أبرع المؤولين والمحرفين منفذا لمثل هذا القول في الرسل المبشرين المنذرين ، الذين ذكروا في سياق إثبات الوحي ، وقص الله على نبيه بعضهم ، وذكرهم بأسمائهم وبين أحوالهم ، وكذلك آية القصص : حكمة إرسال الرسل حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا لا يقول عاقل إن الرسول هنا هو العقل ، ولكن قد يقوله الذي جن في مذهبه جنونا مطبقا ، وما المجانين في ذلك بقليل ، وكيف والتقليد مبني على عدم استعمال العقل في فهم الدين ، والاكتفاء فيه بما يعزى إلى المذهب بحجة أن المقلدين تعجز [ ص: 61 ] عقولهم عن إدراك الأدلة العقلية والنقلية ، وإنما يفهمون كلام علمائهم دون كلام الله وكلام رسوله ! .
اختلف العلماء الذين اتبع الناس مذاهبهم في فقالت طائفة : لا يجب على أحد إيمان ولا عمل صالح ، ولا يحرم على أحد كفر ولا جرم ، ولا يستحق أحد ثوابا ولا عقابا على شيء ، إلا من بلغته دعوة رسول قامت بها عليه الحجة ؛ فإنه يكلف العمل بما جاء به فحسب ، ولا يجازى إلا على ذلك . وذهبت طائفة إلى أن التكليف بعد بعثة الرسل لا يتعدى ما جاءوا به لمن بلغته ، وأما من لم تبلغه دعوة فإنه يمكن أن يدرك بعقله حسن الأشياء والأعمال وقبحها ، ويجب عليه أن يعمل الحسن ويترك القبيح ، والله - تعالى - يؤاخذه بحسب ما يدركه من ذلك بالعقل ، كما يؤاخذه بحسب ما يدركه من ذلك بالشرع . التكليف ، هل يتوقف كله على إرسال الرسل أم يمكن أن يعرف كله أو بعضه بالعقل ؟
والمتبادر من الآية التي نحن بصدد تفسيرها : أن عدم إرسال الرسل يمكن أن يكون حجة للناس يوم القيامة إذا أراد الله أن يؤاخذهم ويعذبهم على ترك الهدى الذي جاءهم به أولئك الرسل . والمتبادر من آية سورة الإسراء أنه ليس من شأن الله - تعالى - ولا من سنته أن يعذب الأمم التعذيب السماوي العام الذي عبر عنه بقوله : فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( 29 : 40 ) إلا إذا أرسل إليهم رسولا فكذبوه ، وسنته في هذا النوع من التعذيب مبينة في مواضع من الكتاب العزيز ، فهو لا يأخذ به كل قوم كذبوا رسولهم ، بل من أنذرهم العذاب فتماروا بالنذر ، وتمادوا في عناد الرسل وكان الله عزيزا حكيما .
ومن أخذ القرآن بجملته ، وفقه أحكامه وحكمه يعلم أن الدين وضع إلهي لا يستقل العقل البشري بالوصول إليه بنفسه ، بل يعرف بالوحي ، وأنه مع هذا موافق لسنن الفطرة في تزكية النفس ، وإعدادها للحياة الأبدية في عالم القدس ، فهو من حيث هو وضع إلهي ، يترتب على العمل به والترك جزاء وضعي يحدده الله - تعالى - في الدنيا والآخرة ، وهذا الجزاء خاص بمن بلغته دعوته على وجهها . ومن حيث إنه موافق لسنن الفطرة يترتب على الاهتداء به تزكية النفس ، وعلى الإعراض عنه تدسيتها . وتأثير العقائد الصحيحة والأعمال الصالحة والآداب العالية التي يهدي إليه تأثير فطري ذاتي . فكل من اهتدى بها زكت نفسه بقدر اهتدائه بها وإن لم يعلم أن رسولا جاء بها ، وكذلك تأثير العقائد الباطلة والأعمال القبيحة والأخلاق الفاسدة التي ينهى عنها ، فكل من تلوثت بها نفسه فسدت وسفلت ، والأصل في [ ص: 62 ] هذا وذاك الإخلاص في إيثار ما يعتقد الإنسان أنه الحق ، والخير على ضده ، فكما دلت الآيات على أن الله - تعالى - لا يؤاخذ الناس بمخالفة ما جاءت به الرسل إلا إذا بلغتهم دعوتهم ، وقامت عليهم حجتهم ; لأن هذا النوع من المؤاخذة وضعي لا يتحقق إلا بتحقق الوضع الذي يترتب هو عليه . كذلك تدل آيات أخرى على الحساب والجزاء العام بالقسط على حسب تأثير الأعمال في النفوس ، فمن دسى نفسه وأبسلها ، لا يمكن أن يكون عند الله كمن زكى نفسه وأسلمها ، ولا يمكن أن يقول عاقل : إن نفوس من لم تبلغهم الدعوة الصحيحة تكون سواء مهما اختلفت عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم ، فإن هذا مخالف لحكم العقل وإدراك الحس ، إذ لم توجد ولا توجد أمة إلا وفيها الصالحون والطالحون والأبرار والفجار ، والذين يؤثرون ما يرونه من الهدى على داعية الشهوة والهوى والعكس . فهل يكون الفريقان عند الحكم العدل سواء ؟ قل لا يستوي الخبيث والطيب ( 5 : 100 ) مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون ( 11 : 24 ) .