أقام الله الحجة على أهل الكتاب ، ودحض شبهتهم التي غرتهم في دينهم ، فحسن بعد هذا أن يذكرهم بحجته عليهم يوم القيامة إذا هم أصروا على غرورهم وضلالهم ، فقال : ( ياأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل ) أي قد جاءكم رسولنا المبشر به في كتبكم ، المنتظر في اعتقادكم ، فإن الله أخبركم على لسان موسى أنه سيقيم نبيا من بني إسماعيل إخوتكم ، وعلى لسان عيسى ابن مريم بأن سيجيء بعده البارقليط روح الحق ، الذي يعلمكم كل شيء ، ولا تزال هذه البشارات في كتبكم ، وإن حرفتموها بسوء فهم أو بسوء قصد منكم ، وهو النبي الكامل المعهود الذي سأل أجدادكم عنه يحيى ( يوحنا ) عليه السلام . ففي أوائل الإنجيل الرابع أن اليهود أرسلوا كهنة ولاويين فسألوا يوحنا : أأنت المسيح ؟ قال : لا . أأنت إيليا ؟ قال : لا . أأنت النبي ؟ قال : لا ، وهذا هو الرسول محمد النبي العربي الأمي الذي لم يتعلم شيئا - وهو يبين لكم على فترة - أي انقطاع - [ ص: 264 ] من الرسل ، وطول عهد على الوحي - جميع ما تحتاجون إليه من أمر دينكم ، وما يصلح به أمر دنياكم من العقائد الحق التي أفسدتها عليكم نزغات الوثنية ، والأخلاق والآداب الصحيحة التي أفسدها عليكم الإفراط والتفريط في الأمور المادية والروحية ، والعبادات والأحكام ، التي تصلح بها أموركم الشخصية والاجتماعية ؛ فترك التصريح بمفعول ( يبين لكم ) لإفادة العموم ، ويدخل فيه ما بينه لكم مما كنتم تخفون من الكتاب ; لإقامة الحجة عليكم ، ولو لم يكن رسولا من عند الله تعالى لما عرف هذا ولا ذاك ، مما تقاصرت عنه علوم أحباركم ورهبانكم وحكمائكم وساستكم ، جاء رسولنا محمد يبين لكم كل هذا ; ليقطع معذرتكم ، ويمنعكم يوم القيامة ( أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ) يبشرنا بحسن عاقبة المؤمنين الصالحين المتقين ، وينذرنا ويخوفنا سوء عاقبة المفسدين الضالين المغرورين .
( فقد جاءكم بشير ونذير ) يبين لكم أن أمر النجاة والخلاص والسعادة الأبدية في دار القرار ليس منوطا بأمانيكم التى تتمنونها ، وأوهامكم التى تغترون بها ، بل هو منوط بالإيمان والأعمال ، وأن الله تعالى لا يحابي أحدا من الناس . قال تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ) ( 4 : 123 124 ) ( والله على كل شيء قدير ) فلا يعجزه أن يريكم صدق نبيه بنصر دعوته ، وإعلاء كلمته عليكم في الدنيا ; لتقيسوا على ذلك - إن عقلتم - ما يكون من الأمر في الدار الأخرى .
روى أبناء إسحاق وجرير والمنذر وأبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن قال : ابن عباس دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام ، فرغبهم فيه وحذرهم ; فأبوا عليه ، فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب : يا معشر يهود ، اتقوا الله ، فوالله لتعلمون أنه رسول الله ، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه ، وتصفونه لنا بصفته ، فقال رافع بن حريملة ووهب بن يهوذا : إنا ما قلنا لكم هذا ، وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده . فأنزل الله الآية ; أي أنزلها في هذا السياق ، متضمنة للرد عليهم .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن " الفترة " من فتر الشيء : إذا سكن أو زالت حدته . وقال الراغب : " الفتور " سكون بعد حدة ، ولين بعد شدة ، وضعف بعد قوة ، وذكر الآية ، والمراد بها هنا انقطاع الوحي وظهور الرسل عدة قرون ، وقوله ( أن تقولوا ) تقدم مثله ، ومنه : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) ( 4 : 176 ) في آخر سورة النساء ، وتقدم [ ص: 265 ] وجه إعرابه ، وأن بعضهم يقدر له : كراهية أن تقولوا ، ومثله اتقاء أن تقولوا ، بل هذا أحسن ، وبعضهم يقدر النفي فيقول : لئلا تقولوا ، والمعنى على كل وجه ما ذكرناه آنفا من منعهم من هذا الاحتجاج ، وقطع طريقه عليهم .