وأقول : لا حاجة إلى القيد ; لأن من شأن كل جناية أن يخاف آجلها وتحذر عاقبتها ، ومن تتبع الشواهد والأقوال يرجح معي أن الأجل هو جلب الشيء الذي له عاقبة أو ثمرة ، وكسبه أو تهييجه ، ويعدى باللام ، وقد تكون العاقبة حسنة كقولهم : أجل لأهله ، وغلب الفعل في الرديء والشر ، وإن عدي باللام كقول توبة بن مضرس العيسي :
فإن تك أم ابني زميلة أثكلت فيا رب أخرى قد أجلت لها ثكلا
[ ص: 288 ] ثم استعمل في التعليل مطلقا ، كما قال عدي بن زيدأجل أن الله قد فضلكم
البيت ، وهو بغير من .ومعنى العبارة أنه بسبب ذلك الجرم والقتل الذي أحله أحد هذين الأخوين ظلما وعدوانا ، لا بسبب آخر كتبنا وفرضنا على بني إسرائيل كيت وكيت ، فتقديم الجار والمجرور على ( كتبنا ) يفيد أن هذا التشديد في كان بسبب هذه الجناية الدالة على أن البشر عرضة للبغي الشديد الذي يفضي إلى القتل بغير حق ، إذا لم يردعهم الوعيد الشديد ، أو خوف العقاب العتيد ، ولعل تخصيص تشنيع القتل بني إسرائيل بالذكر هو الذي أخذ منه الحسن قوله : إن ولدي آدم هذين كانا من بني إسرائيل ، والجمهور يقولون : إن هذا التخصيص للتعريض بما كان من شدة حسد اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وللعرب ; لأنه بعث فيهم ، كما بين الله ذلك في كتابه من قبل ، وبما كان من إسرافهم في البغي ، ومنه قتلهم للأنبياء ، عليهم السلام ، بغير حق .
وأما هذا الذي كتبه الله عليهم فهو ( أنه من قتل نفسا بغير نفس ) أي بغير سبب القصاص الذي شرعه الله تعالى في قوله الآتي في هذه السورة : ( وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس ) ( 5 : 45 ) أي من قتل نفسا يقتل بها جزاء وفاقا ( أو فساد في الأرض ) أو غير سبب فساد في الأرض بسلب الأمن ، والخروج على أئمة العدل ، وإهلاك الحرث والنسل ، كما تفعله العصابات المسلحة لقتل الأنفس ونهب الأموال ، أو إفساد الأمر على ذي السلطان المقيم لحدود الله ، وهو ما سيأتي حكمه قريبا في قوله تعالى : ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا ) ( 5 : 33 ) الآية .
( فكأنما قتل الناس جميعا ) لأن الواحد يمثل النوع في جملته ، فمن استحل دمه بغير حق يستحل دم كل واحد كذلك ; لأنه مثله ، فتكون نفسه ضاربة بالبغي لا وازع لها من ذاتها ولا من الدين ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ) أي ومن كان سببا لحياة نفس واحدة بإنقاذها من موت كانت مشرفة عليه فكأنما أحيا الناس جميعا ; لأن الباعث له على إنقاذ الواحدة - وهو الرحمة والشفقة ومعرفة قيمة الحياة الإنسانية واحترامها ، والوقوف عند حدود الشريعة في حقوقها - تندغم فيه جميع حقوق الناس عليه ، فهو دليل على أنه إذا استطاع أن ينقذهم كلهم من هلكة يراهم مشرفين على الوقوع فيها لا يني في ذلك ولا يدخر وسعا ، ومن كان كذلك لا يقصر في حق من حقوق البشر عليه . ويلزم من ذلك أنه لو كان جميع الناس أو أكثرهم مثل ذلك الذي قتل نفسا واحدة بغير حق لكانوا عرضة للهلاك بالقتل في كل وقت ، ولو كانوا مثل ذلك الذي أحيا نفسا واحدة احتراما لها وقياما بحقوقها لامتنع القتل بغير الحق من الأرض ، وعاش الناس متعاونين ، بل إخوانا متحابين متوادين ، فالآية تعلمنا ما يجب من وحدة البشر وحرص كل منهم على حياة [ ص: 289 ] الجميع ، واتقائه ضرر كل فرد ; لأن انتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع ، والقيام بحق الفرد من حيث إنه عضو من النوع ، وما قرر له من حقوق المساواة في الشرع ، قيام بحق الجميع . وقد غفل عن هذا المعنى العالي من جعل التشبيه في الآية مشكلا يحتاج إلى التخريج والتأويل .
وقد بينا من قبل أن القرآن كثيرا ما يهدينا إلى وحدة الأمة ووجوب تكافلها ، بمثل إسناد عمل المتقدمين منها إلى المتأخرين ، ووضع اسم الأمة أو ضميرها في مقام الحكاية ، أو الخطاب لبعض أفرادها ، ومن ذلك ما تقدم في تفسير : ( ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم ) ( 4 : 29 ) فقد قلنا هنالك - بعد إيراد عدة آيات في هذا المعنى بمثل هذا التعبير ، وبيان كونه يدل على وحدة الأمة وتكافلها - ما نصه : بل علمنا القرآن أن جناية الإنسان على غيره تعد جناية على البشر كلهم ، لا على المتصلين معه برابطة الأمة الدينية أو الجنسية أو السياسية فقط بقوله عز وجل : ( من قتل نفسا بغير نفس ) الآية .
وروي أن وجه التشبيه هو القصاص ، فمن قتل نفسا واحدة كمن قتل كل الناس في كونه يقتل قصاصا بالواحدة وبالكثير ؛ إذ لا عقوبة فوق القتل ، رواه عن ابن جرير ابن زيد عن أبيه ، ولا يظهر مثل هذا المعنى في " الإحياء " . والمروي عن ابن زيد فيه أن كان له من الأجر مثل أجر من أحيا الناس جميعا ، وقيل مثل هذا في القتل ؛ وهو أن إثم قتل النفس الواحدة مثل إثم قتل جميع الناس ، وجزاؤهما واحد ، وقد بين في سورة النساء ( ص37 ج 5 ط الهيئة ) وعن ولي الدم إذا عفا عن القاتل أن المراد بالنفس في الموضعين نفس النبي أو الإمام العادل ، وإحياؤها نصره وشد عضده ، وهو صحيح المعنى ; لأن قتل المصلح أو إنقاذه ونصره يؤثر في الأمة كلها ، ولكن اللفظ يأباه ، وما أراه يصح عن ابن عباس وروي عن غيره ومنه أن من حرم قتل نفس بدون حق حيى الناس جميعا منه . وقيل إن المعنى أن من قتل نفسا كان قتلها كقتل الناس جميعا عند المقتول وبالنسبة إليه ، ومن أنقذها من القتل كان عند المنقذ كإحياء الناس جميعا ، روى هذه الأقوال ابن عباس ، واختار منها أن وجه التشبيه في القتل هو عقاب الآخرة ، وفي الإحياء أنه سلامة الناس ممن يحرم على نفسه قتل النفس التي حرمها الله ، وما قلناه أولا أوضح وأجمع للمعاني . ابن جرير
ومن الغرائب أن هذه الحكمة العالية من جملة ما نسي بنو إسرائيل من أحكام دينهم ; إذ فقدت التوراة ، ثم كتبوا ما بقي في حفظهم من أحكامها ، فأما قصة ابني آدم فهي في الفصل الرابع من سفر التكوين ، وملخصها أن قابيل لما قدم قربانا للرب من ثمرات الأرض ، وقدم هابيل قربانا من أبكار غنمه ، ونظر الرب إلى هابيل وقربانه دون أخيه اغتاظ [ ص: 290 ] قايين وقتل هابيل ، فسأله الرب عنه : أين هو ؟ فأجاب : لا أعلم ، وهل أنا حارس لأخي ؟ فلعنه الرب وطرده عن وجه الأرض ! فندم ، واسترحم الرب ، وخاف أن يقتله كل من وجده ( 15 - فقال له الرب : لذلك كل من قتل قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه ، وجعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده ( ! ! ) فخرج قايين من لدن الرب ، وسكن في أرض نود شرقي عدن ! ! ) وفي الفصل التاسع منه أن نوحا قال لبنيه ( 6 سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه ; لأن الله على صورته عمل الإنسان ) وفي الفصل الحادي والعشرين من سفر الخروج أن من قتل إنسانا عمدا يقتل ، ومن بغى على صاحبه ليقتله بغدر " فمن عند مذبحي تأخذه للموت " ومن ضرب أباه أو أمه أو شتمهما ، أو سرق إنسانا وباعه أو وجد في يده يقتل ، فأسباب القتل عندهم كثيرة ، ولم تكن هذه الشدة رادعة لهم عن القتل بغير حق حتى قتل الأنبياء ، فهل يكثر عليهم ما كانوا عزموا عليه من قتل النبي المصطفى غدرا ؟ لا ، لا ، ولهذا قال تعالى فيهم :