لما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ، ذكر الرضاع ؛ لأن الزوجين قد يفترقان وبينهما ولد ، ولهذا قيل : إن هذا خاص بالمطلقات ، وقيل : هو عام .
وقوله : " يرضعن " قيل : هو خبر في معنى الأمر للدلالة على تحقق مضمونه ، وقيل : هو خبر على بابه ليس هو في معنى الأمر على حسب ما سلف في قوله : يتربصن [ البقرة : 228 ] وقوله : كاملين تأكيد للدلالة على أن هذا التقدير تحقيقي لا تقريبي .
وقوله : لمن أراد أن يتم الرضاعة أي ذلك لمن أراد أن يتم الرضاعة ، وفيه دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتما ، بل هو التمام ، ويجوز الاقتصار على ما دونه .
وقرأ مجاهد وابن محيصن " لمن أراد أن تتم " بفتح التاء ورفع الرضاعة على إسناد الفعل إليها .
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة والجارود بن أبي سبرة بكسر الراء من الرضاعة وهي لغة .
وروي عن مجاهد أنه قرأ " الرضعة " ، وقرأ " لمن أراد أن يكمل الرضاعة " . ابن عباس
قال النحاس : لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بفتح الراء .
وحكى الكوفيون جواز الكسر .
والآية تدل على وجوب ، وقد حمل ذلك على ما إذا لم يقبل الرضيع غيرها . الرضاع على الأم لولدها
قوله : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن أي على الأب الذي يولد له ، وآثر هذا اللفظ دون قوله : وعلى الوالد للدلالة على أن الأولاد للآباء لا للأمهات ، ولهذا ينسبون إليهم دونهن كأنهن إنما ولدن لهم فقط ، ذكر معناه في الكشاف ، والمراد بالرزق هنا الطعام الكافي المتعارف به بين الناس ، والمراد بالكسوة : ما يتعارفون به أيضا ، وفي ذلك دليل على وجوب ذلك على الآباء للأمهات المرضعات .
وهذا في المطلقات ، وأما غير المطلقات فنفقتهن وكسوتهن واجبة على الأزواج من غير إرضاعهن لأولادهن .
وقوله : لا تكلف نفس إلا وسعها هو تقييد لقوله : بالمعروف أي هذه النفقة والكسوة الواجبتان على الأب بما يتعارفه الناس لا يكلف منها إلا ما يدخل تحت وسعه وطاقته لا ما يشق عليه ويعجز عنه ، وقيل : المراد لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة ، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف ، بل يراعى القصد .
قوله : لا تضار قرأ أبو عمرو وابن كثير وجماعة ورواه أبان عن عاصم بالرفع على الخبر ، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في المشهور عنه تضار بفتح الراء المشددة على النهي ، وأصله لا تضارر أو لا تضارر على البناء للفاعل أو للمفعول ، أي لا تضارر الأب بسبب الولد بأن تطلب منه ما لا يقدر عليه من الرزق والكسوة ، أو بأن تفرط في حفظ الولد والقيام بما يحتاج إليه ، أو لا تضارر من زوجها بأن يقصر عليها في شيء مما يجب عليه أو ينتزع ولدها منها بلا سبب ، وهكذا قراءة الرفع تحتمل الوجهين ، وقرأ " لا تضارر " على الأصل بفتح الراء الأولى ، عمر بن الخطاب وقرأ أبو جعفر بن القعقاع " لا تضار " بإسكان الراء وتخفيفها ، وروي عنه الإسكان والتشديد ، وقرأ الحسن " لا تضارر " بكسر الراء الأولى ، ويجوز أن تكون الباء في قوله : بولده صلة لقوله : تضار على أنه بمعنى تضر : أي لا تضر والدة بولدها فتسيء تربيته أو تقصر في غذائه ، وأضيف الولد تارة إلى الأب وتارة إلى الأم ؛ لأن كل واحد منهما يستحق أن ينسب إليه مع ما في ذلك من الاستعطاف ، وهذه الجملة تفصيل للجملة التي قبلها وتقرير لها : أي لا يكلف كل واحد منهما الآخر ما لا يطيقه فلا تضاره بسبب ولده . وابن عباس
قوله : وعلى الوارث هو معطوف على قوله : وعلى المولود له وما بينهما تفسير للمعروف ، أو تعليل له معترض بين المعطوف والمعطوف عليه .
واختلف أهل العلم في معنى قوله : وعلى الوارث مثل ذلك فقيل : هو وارث الصبي : أي إذا مات المولود له على وارث هذا الصبي المولود إرضاعه كما كان يلزم أباه ذلك ، قاله عمر بن الخطاب وقتادة والسدي والحسن ومجاهد وعطاء وأحمد وإسحاق وأبو حنيفة وابن أبي [ ص: 158 ] ليلى على خلاف بينهم ، هل يكون الوجوب على من يأخذ نصيبا من الميراث ، أو على الذكور فقط ، أو على كل ذي رحم له وإن لم يكن وارثا منه ، وقيل : المراد بالوارث وارث الأب تجب عليه نفقة المرضعة وكسوتها بالمعروف ، قاله الضحاك .
وقال مالك في تفسير هذه الآية بمثل ما قاله الضحاك ، ولكنه قال : إنها منسوخة ، وإنها لا تلزم الرجل نفقة أخ ولا ذي قرابة ولا ذي رحم منه ، وشرطه الضحاك بأن لا يكون للصبي مال ، فإن كان له مال أخذت أجرة رضاعه من ماله .
وقيل : المراد بالوارث المذكور في الآية هو الصبي نفسه : أي عليه من ماله إرضاع نفسه إذا مات أبوه وورث من ماله ، قاله قبيصة بن ذؤيب وبشير بن ناصر قاضي عمر بن عبد العزيز .
وروي عن وقيل : هو الباقي من والدي المولود بعد موت الآخر منهما ، فإذا مات الأب كان على الأم كفاية الطفل إذا لم يكن له مال ، قاله الشافعي ، وقيل : إن معنى قوله تعالى : سفيان الثوري ، وعلى الوارث مثل ذلك أي : وارث المرضعة يجب عليه أن يصنع بالمولود كما كانت الأم تصنعه به من الرضاع والخدمة والتربية .
وقيل : إن وعلى الوارث مثل ذلك أنه يحرم عليه الإضرار بالأم كما يحرم على الأب ، وبه قالت طائفة من أهل العلم ، قالوا : وهذا هو الأصل ، فمن ادعى أنه يرجع فيه العطف إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل . معنى قوله تعالى :
قال القرطبي : وهو الصحيح ، إذ لو أراد الجميع الذي هو الرضاع والإنفاق وعدم الضرر يقال : وعلى الوارث مثل هؤلاء ، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارة ، وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى . القاضي عبد الوهاب
قال ابن عطية : وقال مالك وجميع أصحابه والشعبي والزهري والضحاك وجماعة من العلماء : المراد بقوله مثل ذلك أن لا تضار .
وأما الرزق والكسوة فلا يجب شيء منه .
وحكى ابن القاسم عن مالك مثل ما قدمنا عنه في تفسير هذه الآية ودعوى النسخ .
ولا يخفى عليك ضعف ما ذهبت إليه هذه الطائفة ، فإن ما خصصوا به معنى قوله : وعلى الوارث مثل ذلك من ذلك المعنى : أي عدم الإضرار بالمرضعة قد أفاده قوله : لا تضار والدة بولدها لصدق ذلك على كل مضارة ترد عليها من المولود له أو غيره .
وأما قول القرطبي : لو أراد الجميع لقال مثل هؤلاء ، فلا يخفى ما فيه من الضعف البين ، فإن اسم الإشارة يصلح للمتعدد كما يصلح للواحد بتأويل المذكور أو نحوه .
وأما ما ذهب إليه أهل القول الأول من أن المراد بالوارث وارث الصبي ، فيقال عليه إن لم يكن وارثا حقيقة مع وجود الصبي حيا ، بل هو وارث مجازا باعتبار ما يؤول إليه .
وأما ما ذهب إليه أهل القول الثاني فهو وإن كان فيه حمل الوارث على معناه الحقيقي ، لكن في إيجاب النفقة عليه مع غنى الصبي ما فيه ، ولهذا قيده القائل به بأن يكون الصبي فقيرا ، ووجه الاختلاف في تفسير الوارث ما تقدم من ذكر الوالدات والمولود له والوالد ، فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم .
قوله : فإن أرادا فصالا الضمير للوالدين .
والفصال : الفطام عن الرضاع : أي التفريق بين الصبي والثدي ، ومنه سمي الفصيل لأنه مفصول عن أمه .
وقوله : عن تراض منهما أي صادرا عن تراض من الأبوين إذا كان الفصال قبل الحولين فلا جناح عليهما في ذلك الفصال .
سبحانه لما بين أن حولين كاملين قيد ذلك بقوله : مدة الرضاع لمن أراد أن يتم الرضاعة وظاهره أن الأب وحده إذا أراد أن يفصل الصبي قبل الحولين كان ذلك جائزا له ، وهنا اعتبر سبحانه تراضي الأبوين وتشاورهما فلا بد من الجمع بين الأمرين بأن يقال : إن الإرادة المذكورة في قوله : لمن أراد أن يتم الرضاعة لا بد أن تكون منهما ، أو يقال : إن تلك الإرادة إذا لم يكن الأبوان للصبي حيين بأن كان الموجود أحدهما ، أو كانت المرضعة للصبي ظئرا غير أمه .
والتشاور : استخراج الرأي يقال : شرت العسل : استخرجته ، وشرت الدابة : أجريتها لاستخراج جريها ، فلا بد لأحد الأبوين إذا أراد فصال الرضيع أن يراضي الآخر ويشاوره حتى يحصل الاتفاق بينهما على ذلك .
قوله : وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم قال : التقدير أن تسترضعوا لأولادكم غير الوالدة . الزجاج
وعن أنه حذف اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين ، والمفعول الأول محذوف ، والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم سيبويه إذا سلمتم ما آتيتم بالمد أي أعطيتم ، وهي قراءة الجماعة إلا ابن كثير ، فإنه قرأ بالقصر : أي فعلتم ، ومنه قول زهير :
وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل
والمعنى أنه لا بأس عليكم أن تسترضعوا أولادكم غير أمهاتكم إذا سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما قد أرضعن لكم إلى وقت إرادة الاسترضاع ، قاله سفيان الثوري ومجاهد .وقال قتادة : إن معنى الآية : إذا سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع أي سلم كل واحد من الأبوين ورضي وكان ذلك عن اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الأمر ، وعلى هذا فيكون قوله : سلمتم عاما للرجال والنساء تغليبا وعلى القول الأول الخطاب للرجال فقط ، وقيل : المعنى : إذا سلمتم لمن أردتم استرضاعها أجرها ، فيكون المعنى إذا سلمتم ما أردتم إيتاءه : أي إعطاءه إلى المرضعات بالمعروف : أي بما يتعارفه الناس من أجر المرضعات من دون مماطلة لهن أو حط بعض ما هو لهن من ذلك ، فإن عدم توفير أجرهن يبعثهن على التساهل بأمر الصبي والتفريط في شأنه . والزهري
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد في قوله : والوالدات يرضعن أولادهن قال : المطلقات حولين قال : سنتين لا تضار والدة بولدها يقول : لا تأبى أن ترضعه ضرارا لتشق على أبيه ولا مولود له بولده يقول : ولا يضار الوالد بولده فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها بذلك وعلى الوارث [ ص: 159 ] قال : يعني الولي من كان مثل ذلك قال : النفقة بالمعروف وكفالته ورضاعه إن لم يكن للمولود مال ، وأن لا تضار أمه فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور قال : غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم قال : خيفة الضيعة على الصبي فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف قال : حساب ما أرضع به الصبي .
وأخرج عن ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية أنه قال : المراد بقوله : سعيد بن جبير والوالدات يرضعن أولادهن هي في الرجل يطلق امرأته وله منها ولد .
وقال في إذا سلمتم ما آتيتم قال : ما أعطيتم الظئر من فضل على أجرها . قوله :
وأخرج أبو داود في ناسخه عن في قوله : زيد بن أسلم والوالدات يرضعن أولادهن قال : إنها المرأة تطلق أو يموت عنها زوجها .
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن في التي تضع لستة أشهر أنها ترضع حولين كاملين ، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهرا ، ثم تلا ابن عباس وحمله وفصاله ثلاثون شهرا [ الأحقاف : 15 ] .
وأخرج عن ابن جرير الضحاك في قوله : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف قال : على قدر الميسرة .
وأخرج أبو داود في ناسخه عن وابن أبي حاتم في قوله : زيد بن أسلم لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ليس لها أن تلقي ولدها عليه ولا يجد من يرضعه ، وليس له أن يضارها فينتزع منها ولدها وهي تحب أن ترضعه وعلى الوارث قال : هو ولي الميت .
وأخرج عن ابن أبي حاتم عطاء وإبراهيم في قوله : والشعبي وعلى الوارث قال : هو وارث الصبي ينفق عليه .
وأخرج عبد الرزاق عن وعبد بن حميد قتادة نحوه ، وزاد : إذا كان المولود لا مال له مثل الذي على والده من أجر الرضاع .
وأخرج عن عبد بن حميد الحسن نحوه .
وأخرج عبد الرزاق عن وعبد بن حميد نحوه أيضا . ابن سيرين
وأخرج عن ابن جرير في قوله : قبيصة بن ذؤيب وعلى الوارث مثل ذلك قال : هو الصبي .
وأخرج عن وكيع نحوه . عبد الله بن مغفل
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن في قوله : ابن عباس وعلى الوارث مثل ذلك قال : لا يضار .
وأخرج ، عن ابن جرير الضحاك " فإن أرادا فصالا " قال الفطام . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن وابن جرير مجاهد قال : التشاور فيما دون الحولين ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى ، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى .
وأخرجوا عن عطاء في قوله تعالى : وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم قال : أمه أو غيرها فلا جناح عليكم إذا سلمتم قال : إذا سلمت لها أجرها ما آتيتم ما أعطيتم .