قوله : إن المنافقين يخادعون الله هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم ، وقد تقدم معنى الخدع في البقرة ، ومخادعتهم لله هي أنهم يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر ، ومعنى كون الله خادعهم ؛ أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه ، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا ، فعصم به أموالهم ودماءهم ، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة ، فجازهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار ، قال في الكشاف : والخادع اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته ، وكنت أخدع منه ، و ( الكسالى ) بضم الكاف جمع كسلان ، وقرئ بفتحها ، والمراد أنهم يصلون وهم متكاسلون متثاقلون لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا ، والرياء إظهار الجميل ليراه الناس ، لا لاتباع أمر الله ، وقد تقدم بيانه ، والمراءاة المفاعلة .
قوله : ولا يذكرون الله إلا قليلا معطوف على ( يراءون ) أي : لا يذكرونه سبحانه إلا ذكرا قليلا أو لا يصلون إلا صلاة قليلة ، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص ، أو لكونه غير مقبول أو لكونه قليلا في نفسه ؛ لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء ، إنما يفعلها في المجامع ولا يفعلها خاليا كالمخلص ، قوله : مذبذبين بين ذلك المذبذب المتردد بين أمرين ، والذبذبة الاضطراب ، يقال : ذبذبه فتذبذب ، ومنه قول النابغة :
ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
قال : المذبذب : القلق الذي لا يثبت على حال ، فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر ، قال في الكشاف : وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين ؛ أي : يذاد ويدفع فلا يقر في جانب واحد ، كما يقال : فلان يرمي به الرجوان ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب ، كأن المعنى : كلما مال إلى جانب ذب عنه انتهى ، وقرأ الجمهور بضم الميم وفتح الذالين ، وقرأ ابن جني بكسر الذال الثانية ، وفي حرف أبي ( متذبذبين ) وقرأ ابن عباس الحسن بفتح الميم والذالين ، وانتصاب مذبذبين إما على الحال أو على الذم ، والإشارة بقوله بين ذلك إلى الإيمان والكفر ، قوله : لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء أي : لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ، ومحل الجملة النصب على الحال ، أو على البدل من مذبذبين أو على التفسير له ومن يضلل الله أي : يخذله ويسلبه التوفيق فلن تجد له سبيلا أي : طريقا يوصله إلى الحق .
قوله : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أي : لا تجعلوهم خاصة لكم وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا الاستفهام للتقريع والتوبيخ ؛ أي : أتريدون أن تجعلوا الله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة الكافرين إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار قرأ الكوفيون الدرك [ ص: 339 ] بسكون الراء ، وقرأ غيرهم بتحريكها .
قال أبو علي : هما لغتان والجمع أدراك ، وقيل : جمع المحرك أدراك مثل جمل وأجمال ، وجمع الساكن أدرك مثل فلس وأفلس ، قال النحاس : والتحريك أفصح .
والدرك : الطبقة ، والنار دركات سبع ، فالمنافق في الدرك الأسفل منها ، وهي الهاوية ، لغلظ كفره وكثرة غوائله ، وأعلى الدركات جهنم ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية .
وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا ، أعاذنا الله من عذابها ولن تجد لهم نصيرا يخلصهم من ذلك الدرك ، والخطاب لكل من يصلح له أو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا الذين تابوا استثناء من المنافقين ؛ أي : إلا الذين تابوا عن النفاق وأصلحوا ما أفسدوا من أحوالهم وأخلصوا دينهم لله أي : جعلوه خالصا له غير مشوب بطاعة غيره ، والاعتصام بالله : التمسك به والوثوق بوعده ، والإشارة بقوله : أولئك إلى الذين تابوا واتصفوا بالصفات السابقة ، قوله : مع المؤمنين قال الفراء : أي من المؤمنين ؛ يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا .
قال القتيبي : حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال : فأولئك مع المؤمنين ولم يقل : هم المؤمنون انتهى . والظاهر أن معنى مع معتبر هنا ؛ أي : فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة .
ثم بين ما أعد الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال : وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ لسكونها وسكون اللام بعدها ، ومثله يوم يدع الداع و سندع الزبانية يوم يناد المناد ونحوها ، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين ، قوله : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم هذه الجملة متضمنة لبيان أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرد المجازاة للعصاة ، والمعنى ؛ أي : منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم ، فإن ذلك لا يزيد في ملكه كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه وكان الله شاكرا عليما أي : يشكر عباده على طاعته فيثيبهم عليها ويتقبلها منهم ، والشكر في اللغة : الظهور ، يقال : شكور إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف .
وقد أخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عن الحسن في قوله : إن المنافقين يخادعون الله الآية ، قال : يلقي على مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم القيامة حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ومضى المؤمنون بنورهم فتلك خديعة الله إياهم . وأخرج ، عن ابن جرير نحوه . السدي
وأخرج ابن المنذر ، عن مجاهد ، نحوه أيضا ، ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير ، فإن مثله لا ينقل إلا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . وأخرج وسعيد بن جبير ، عن ابن جرير في الآية قال : نزلت في ابن جريج عبد الله بن أبي ، وأبي عامر بن النعمان .
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق ، وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا . وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : مذبذبين بين ذلك قال : هم المنافقون لا إلى هؤلاء يقول : لا إلى أصحاب محمد ولا إلى هؤلاء اليهود ، وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : . إن مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة فلا تدري أيهما تتبع
وأخرج ، عبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا قال : إن لله السلطان على خلقه ولكنه يقول عذرا مبينا . وأخرج عبد الرزاق ، ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة والله سبحانه أعلم . ابن عباس
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم ، عن والطبراني في قوله : ابن مسعود إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار قال : في توابيت من حديد مقفلة عليهم ، وفي لفظ مبهمة عليهم ؛ أي : مغلقة لا يهتدى لمكان فتحها . وأخرج ، عبد بن حميد ، عن وابن أبي حاتم نحوه . وأخرج أبي هريرة ، عن ابن أبي الدنيا نحوه أيضا . وأخرج ابن مسعود ، عبد بن حميد وابن المنذر ، عن قتادة في قوله : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم الآية ، قال : إن الله لا يعذب شاكرا ولا مؤمنا .