قوله : إن شر الدواب أي شر ما يدب على وجه الأرض عند الله أي في حكمه الذين كفروا أي المصرون على الكفر المتمادون في الضلال ، ولهذا قال : فهم لا يؤمنون أي : إن هذا شأنهم لا يؤمنون أبدا ، ولا يرجعون عن الغواية أصلا ، وجعلهم شر الدواب لا شر الناس إيماء إلى انسلاخهم عن الإنسانية ودخولهم في جنس غير الناس من أنواع الحيوان لعدم تعقلهم لما فيه رشادهم .
قوله : الذين عاهدت منهم بدل من الذين كفروا أو عطف بيان أو في محل نصب على الذم .
والمعنى : أن هؤلاء الكافرين الذين هم شر الدواب عند الله هم هؤلاء الذين عاهدت منهم : أي أخذت منهم عهدهم ثم هم ينقضون عهدهم الذي عاهدتم في كل مرة من مرات المعاهدة ، والحال أن " هم لا يتقون " النقض ولا يخافون عاقبته ولا يتجنبون أسبابه ، وقيل : إن " من " في قوله : " منهم " للتبعيض ، ومفعول عاهدت محذوف : أي الذين عاهدتهم ، وهم بعض أولئك الكفرة : يعني الأشراف منهم ، وعطف المستقبل وهو " ثم ينقضون " على الماضي ، وهو " عاهدت " للدلالة على استمرار النقض منهم ، وهؤلاء هم قريظة عاهدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا يعينوا الكفار فلم يفوا بذلك كما سيأتي .
ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشدة والغلظة عليهم ، فقال : فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم أي فإما تصادفنهم في ثقاف وتلقاهم في حالة تقدر عليهم فيها وتتمكن من غلبهم فشرد بهم من خلفهم أي ففرق بقتلهم ، والتنكيل بهم من خلفهم من المحاربين لك من أهل الشرك ؛ حتى يهابوا جانبك ، ويكفوا عن حربك مخافة أن ينزل بهم ما نزل بهؤلاء .
والثقاف في أصل اللغة : ما يشد به القناة أو نحوها ومنه قول النابغة :
تدعو قعيبا وقد غص الحديد بها غص الثقاف على ضم الأنابيب
يقال : ثقفته : وجدته ، وفلان ثقف : سريع الوجود لما يحاوله ، والتشريد : التفريق مع الاضطراب .وقال أبو عبيدة : فشرد بهم سمع بهم .
وقال : افعل بهم فعلا من القتل تفرق به من خلفهم ، يقال : شردت بني فلان : قلعتهم عن مواضعهم وطردتهم عنها حتى فارقوها . الزجاج
قال الشاعر :
أطوف في الأباطح كل يوم مخافة أن يشردني حكيم
قال قطرب : التشريذ بالذال المعجمة هو التنكيل ، وبالمهملة هو التفريق .
وقال المهدي : الذال المعجمة لا وجه لها إلا أن تكون بدلا من الدال المهملة لتقاربهما .
قال : ولا يعرف " فشرد " في اللغة ، وقرئ " من خلفهم " بكسر الميم والفاء .
قوله : وإما تخافن من قوم خيانة أي غشا ونقضا للعهد من القوم المعاهدين فانبذ إليهم أي فاطرح إليهم العهد الذي بينك وبينهم على سواء على طريق مستوية .
والمعنى : أنه يخبرهم إخبارا ظاهرا مكشوفا بالنقض ولا يناجزهم الحرب بغتة ، وقيل : معنى على سواء على وجه يستوي في العلم بالنقض أقصاهم وأدناهم ، أو تستوي أنت وهم فيه ، قال : السواء العدل ، وقد يكون بمعنى الوسط ، ومنه قوله : الكسائي في سواء الجحيم ( الصافات : 55 ) ، ومنه قول حسان :
يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد
ومن الأول قول الشاعر :
فاضرب وجوه الغدر الأعداء حتى يجيبوك إلى سواء
قال ابن عطية : والذي يظهر من ألفاظ القرآن أن أمر بني قريظة انقضى عند قوله : فشرد بهم من خلفهم ثم ابتدأ - تبارك وتعالى - في هذه الآية يأمره بما يصنعه في المستقبل مع من يخاف منه خيانة ، وجملة إن الله لا يحب الخائنين تعليل لما قبلها ، يحتمل أن تكون تحذيرا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المناجزة قبل أن ينبذ إليهم على سواء ، ويحتمل أن تكون عائدة إلى القوم الذين تخاف منهم الخيانة .
قوله : ولا تحسبن قرأ ابن عامر ، ويزيد ، وحفص بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالمثناة من فوق .
فعلى القراءة الأولى يكون " الذين كفروا " فاعل الحسبان ، ويكون مفعوله الأول محذوفا : أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ، ومفعوله الثاني " سبقوا " ومعناه : فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم .
وعلى القراءة الثانية يكون الخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومفعوله الأول " الذين كفروا " ، والثاني " سبقوا " ، وقرئ " إنهم سبقوا " وقرئ " يحسبن " بكسر السين ، وجملة إنهم لا يعجزون تعليل لما قبلها ، أي إنهم لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم .
وقرأ ابن عامر " أنهم " بفتح الهمزة ، والباقون بكسرها ، وكلا القراءتين مفيدة لكون الجملة [ ص: 547 ] تعليلية ، وقيل : المراد بهذه الآية من أفلت من وقعة بدر من المشركين .
والمعنى : أنهم وإن أفلتوا من هذه الوقعة ونجوا فإنهم لا يعجزون ، بل هم واقعون في عذاب الله في الدنيا أو في الآخرة .
وقد زعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم ، أن قراءة من قرأ " يحسبن " بالتحتية لحن ، لا تحل القراءة بها لأنه لم يأت " ل " يحسبن " بمفعول ، وهو يحتاج إلى مفعولين .
قال النحاس : وهذا تحامل شديد ، ومعنى هذه القراءة : ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا ، فيكون الضمير يعود على ما تقدم إلا أن القراءة بالتاء أبين .
وقال المهدوي : يجوز على هذه القراءة أن يكون الذين كفروا فاعلا ، والمفعول الأول محذوف .
والمعنى : ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا .
قال : ويجوز أن يضمر مع سبقوا " أن " فتسد مسد المفعولين ، والتقدير : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، فهو مثل مكي أحسب الناس أن يتركوا ( العنكبوت : 2 ) في سد " أن " مسد المفعولين .
ثم أمر - سبحانه - بإعداد القوة للأعداء ، والقوة كل ما يتقوى به في الحرب ، ومن ذلك السلاح والقسي .
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول : عقبة بن عامر وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ، ألا إن القوة الرمي ، قالها ثلاث مرات .
وقيل : هي الحصون ، والمصير إلى التفسير الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعين .
قوله : ومن رباط الخيل قرأ الحسن ، ، وعمرو بن دينار وأبو حيوة ( ومن ربط الخيل ) بضم الراء والباء ككتب : جمع كتاب .
قال أبو حاتم ، : الرباط من الخيل الخمس فما فوقها ، وهي الخيل التي ترتبط بإزاء العدو ، ومنه قول الشاعر :
أمر الإله بربطها لعدوه في الحرب إن الله خير موفق
ومن فسر القوة بكل ما يتقوى به في الحرب جعل عطف الخيل من عطف الخاص على العام ، وجملة ترهبون به عدو الله وعدوكم في محل نصب على الحال ، والترهيب : التخويف ، والضمير في به عائد إلى ما في ما استطعتم أو إلى المصدر المفهوم من وأعدوا وهو الإعداد .
والمراد بعدو الله وعدوهم هم المشركون من أهل مكة وغيرهم من مشركي العرب .
قوله : وآخرين من دونهم معطوف على " عدو الله وعدوكم " ، ومعنى من دونهم : من غيرهم ، قيل : هم اليهود ، وقيل : فارس والروم ، وقيل : الجن ، ورجحه . ابن جرير
وقيل : المراد بالآخرين من غيرهم كل من لا تعرف عداوته قاله السهيلي .
وقيل : هم بنو قريظة خاصة ، وقيل : غير ذلك ، والأولى الوقف في تعيينهم لقوله : لا تعلمونهم الله يعلمهم .
قوله : وما تنفقوا من شيء في سبيل الله أي في الجهاد وإن كان يسيرا حقا يوف إليكم جزاؤه في الآخرة ، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة كما قررناه سابقا وأنتم لا تظلمون في شيء من هذه النفقة التي تنفقونها في سبيل الله : أي من ثوابها بل يصير ذلك إليكم وافيا وافرا كاملا : وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ( النساء : 40 ) أني لا أضيع عمل عامل منكم ( آل عمران : 195 ) .
وقد أخرج أبو الشيخ ، عن ، قال : نزلت سعيد بن جبير إن شر الدواب عند الله الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن تابوت .
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم قال : قريظة يوم الخندق مالئوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعداءه .
وأخرج ابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس ، فشرد بهم من خلفهم قال : نكل بهم من بعدهم .
وأخرج عنه في الآية قال : نكل بهم من وراءهم . ابن جرير
وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في الآية قال : أنذر بهم . سعيد بن جبير ،
وأخرج ، عبد بن حميد وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قتادة قال : عظ بهم من سواهم من الناس .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم ابن زيد قال : أخفهم بهم .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم في قوله : السدي ، لعلهم يذكرون يقولون : لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك .
وأخرج أبو الشيخ ، عن قال : ابن شهاب جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة ، وأنزل فيهم وإما تخافن من قوم خيانة الآية . دخل
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في قوله : ابن عباس ، إنهم لا يعجزون قال : لا يفوتونا .
وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن في قوله : ابن عباس ، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة قال : الرمي والسيوف والسلاح .
وأخرج ، ابن إسحاق ، عن وابن أبي حاتم في قوله : عباد بن عبد الله بن الزبير وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة قال : أمرهم بإعداد الخيل .
وأخرج أبو الشيخ ، والبيهقي في الشعب ، عن عكرمة في الآية قال : القوة ذكور الخيل ، والرباط الإناث .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم مجاهد مثله .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، عن وابن أبي حاتم في الآية قال : القوة الفرس إلى السهم فما دونه . سعيد بن المسيب
وأخرج ، ابن أبي شيبة وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم عكرمة قال : القوة الحصون ، و من رباط الخيل قال : الإناث .
وأخرج ، الفريابي ، وابن أبي شيبة وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في قوله : ابن عباس ، ترهبون به عدو الله وعدوكم قال : تخزون به عدو الله وعدوكم .
وقد ورد في استحباب الرمي وما فيه من الأجر أحاديث كثيرة .
وكذلك ورد في استحباب اتخاذ الخيل وإعدادها وكثرة ثواب صاحبها أحاديث لا يتسع المقام لبسطها .
وقد أفرد ذلك جماعة من العلماء بمصنفات .