ثم لما قالوا هذا القول أمر الله رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يجيب عليهم بقوله : لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا أي في اللوح المحفوظ ، أو في كتابه المنزل علينا ، وفائدة هذا الجواب أن الإنسان إذا علم أن ، وأن كل ما ناله من خير أو شر إنما هو بقدر الله وقضائه هانت عليه المصائب ، ولم يجد مرارة شماتة الأعداء وتشفي الحسدة ما قدره الله كائن هو مولانا أي ناصرنا وجاعل العاقبة لنا ومظهر دينه على جميع الأديان ، تفويض الأمور إليه ، والمعنى : أن من حق المؤمنين أن يجعلوا توكلهم مختصا بالله سبحانه لا يتوكلون على غيره . والتوكل على الله
وقرأ " يصيبنا " بتشديد الياء . طلحة بن مصرف
وقرأ أعين قاضي الري " يصيبنا " بنون مشددة ، وهو لحن لأن الخبر لا يؤكد ، ورد بمثل قوله تعالى : هل يذهبن كيده ما يغيظ [ الحج : 15 ] .
وقال : معناه لا يصيبنا إلا ما اختصنا الله من النصرة عليكم أو الشهادة . الزجاج
وعلى هذا القول يكون قوله : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين تكريرا لغرض التأكيد ، والأول أولى حتى يكون كل واحد من الجوابين اللذين أمر الله سبحانه رسوله بأن يجيب عليهم بهما مفيدا لفائدة غير فائدة الآخر ، والتأسيس خير من التأكيد ، ومعنى هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخصلتين الحسنيين : إما النصرة أو الشهادة ، وكلاهما مما يحسن لدينا ، والحسنى تأنيث الأحسن ، ومعنى الاستفهام التقريع والتوبيخ ونحن نتربص بكم إحدى المساءتين لكم : إما أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أي قارعة نازلة من السماء فيسحتكم بعذابه ، أو بعذاب لكم بأيدينا أي بإظهار الله لنا عليكم بالقتل والأسر والنهب والسبي .
والفاء في ( فتربصوا ) فصيحة ، والأمر للتهديد كما في قوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ الدخان : 49 ] أي تربصوا بنا ما ذكرنا من عاقبتنا فنحن معكم متربصون ما هو عاقبتكم فستنظرون عند ذلك ما يسرنا ويسوءكم .
وقرأ البزي وابن فليح " هل تربصون " بإظهار اللام وتشديد التاء .
وقرأ الكوفيون بإدغام اللام في التاء .
وقرأ الباقون بإظهار اللام وتخفيف التاء .
قوله : قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم هذا الأمر معناه الشرط والجزاء ، لأن الله سبحانه لا يأمرهم بما لا يتقبله منهم ، والتقدير : إن أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يتقبل منكم ، وقيل : هو أمر في معنى الخبر : أي أنفقتم طوعا أو كرها لن يتقبل منكم ، فهو كقوله : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم [ التوبة : 80 ] وفيه الإشعار بتساوي الأمرين في عدم القبول . وانتصاب طوعا أو كرها على الحال فهما مصدران في موقع المشتقين : أي أنفقوا طائعين في غير أمر من الله ورسوله أو مكرهين بأمر منهما .
وسمي الأمر منهما إكراها لأنهم منافقون لا يأتمرون بالأمر ، فكانوا بأمرهم الذي لا يأتمرون به كالمكرهين على الإنفاق ، أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو مكرهين منهم ، وجملة إنكم كنتم قوما فاسقين تعليل لعدم قبول إنفاقهم .
والفسق : التمرد والعتو ، وقد سبق بيانه لغة وشرعا .
ثم بين سبحانه السبب المانع من قبول نفقاتهم فقال : وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله أي كفرهم بالله وبرسوله جعل المانع من القبول ثلاثة أمور : الأول : الكفر ، الثاني : أنهم لا يصلون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل ، لأنهم لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا ، فصلاتهم ليست إلا رياء للناس وتظاهرا بالإسلام الذي يبطنون خلافه ، والثالث : أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون ، ولا ينفقونها طوعا لأنهم يعدون إنفاقها وضعا لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله .
قوله : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم الإعجاب بالشيء : أن يسر به سرورا راض به ، متعجب من حسنه ، قيل : مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه ، والمعنى : لا تستحسن ما معهم من الأموال والأولاد إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا بما يحصل معهم من الغم والحزن عند أن يغنمها المسلمون ، [ ص: 578 ] ويأخذوها قسرا من أيديهم مع كونها زينة حياتهم وقرة أعينهم ، وكذا في الآخرة يعذبهم بعذاب النار بسبب عدم الشكر لربهم الذي أعطاهم ذلك ، وترك ما يجب عليهم من الزكاة فيها ، والتصدق بما يحق التصدق به ، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة لأنهم منافقون ، فهم ينفقون كارهين فيعذبون بما ينفقون .
قوله : وتزهق أنفسهم وهم كافرون الزهوق : الخروج بصعوبة ، والمعنى : أن الله يريد أن تزهق أنفسهم وتخرج أرواحهم حال كفرهم لعدم قبولهم لما جاءت به الأنبياء وأرسلت به الرسل ، وتصميمهم على الكفر وتماديهم في الضلالة .
ثم ذكر الله سبحانه نوعا آخر من فقال : قبائح المنافقين ويحلفون بالله إنهم لمنكم أي من جملتكم في دين الإسلام والانقياد لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكتاب الله سبحانه وما هم منكم في ذلك إلا بمجرد ظواهرهم دون بواطنهم ولكنهم قوم يفرقون أي يخافون أن ينزل بهم ما نزل بالمشركين من القتل والسبي ، فيظهرون لكم الإسلام تقية منهم لا عن حقيقة .
لو يجدون ملجأ يلتجئون إليه ويحفظون نفوسهم فيه منكم من حصن أو غيره أو مغارات جمع مغارة ، من غار يغير .
قال الأخفش : ويجوز أن يكون من أغار يغير ، والمغارات : الغيران والسراديب ، وهي المواضع التي يستتر فيها ، ومنه غار الماء وغارت العين ، والمعنى : لو وجدوا أمكنة يغيبون فيها أشخاصهم هربا منكم أو مدخلا من الدخول : أي مكانا يدخلون فيه من الأمكنة التي ليست مغارات .
قال النحاس : الأصل فيه متدخل قلبت التاء دالا ، وقيل : أصله مدتخل .
وقرأ أبي " متدخلا " وروي عنه أنه قرأ " مندخلا " بالنون .
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن " أو مدخلا " بفتح الميم وإسكان الدال .
قال : ويقرأ " أو مدخلا " بضم الميم وإسكان الدال . الزجاج
وقرأ الباقون بتشديد الدال مع ضم الميم لولوا إليه أي لالتجئوا إليه وأدخلوا أنفسهم فيه والحال أن وهم يجمحون أي يسرعون إسراعا لا يردهم شيء ، من جمح الفرس : إذا لم يرده اللجام ، ومنه قول الشاعر :
سبوح جموح وإحضارها كمعمعة السعف الموقد
والمعنى : لو وجدوا شيئا من هذه الأشياء المذكورة لولوا إليه مسرعين هربا من المسلمين .وقد أخرج ، عن ابن أبي حاتم قال : جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة يخبرون عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبار السوء يقولون : إن جابر بن عبد الله محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا ، فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه ، فساءهم ذلك فأنزل الله : إن تصبك حسنة تسؤهم الآية .
وأخرج سنيد ، عن وابن جرير ، ابن عباس إن تصبك حسنة تسؤهم يقول : إن يصبك في سفرك هذه الغزوة تبوك حسنة تسؤهم ، قال : الجد وأصحابه ، يعني الجد بن قيس .
وأخرج أبو الشيخ ، عن ، السدي قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا قال : إلا ما قضى الله لنا .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم ، قال : ابن عباس هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين قال : فتح أو شهادة .
وأخرج ابن المنذر ، عن في قوله : ابن جريج أو بأيدينا قال : القتل بالسيوف .
وأخرج ، عن ابن جرير ، قال : قال ابن عباس الجد بن قيس إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ولكن أعينك بمالي ، قال : ففيه نزلت : قل أنفقوا طوعا أو كرها الآية .
وأخرج وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : فلا تعجبك أموالهم قال : هذه من تقاديم الكلام ، يقول : لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة .
وأخرج ابن المنذر ، عن ، قال : إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . ابن عباس
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم ، في قوله : السدي وتزهق أنفسهم وهم كافرون قال : تزهق أنفسهم في الحياة الدنيا وهم كافرون قال : هذه آية فيها تقديم وتأخير .
وأخرج أبو حاتم ، وأبو الشيخ ، عن الضحاك ، في قوله : فلا تعجبك يقول : لا يغرنك وتزهق قال : تخرج أنفسهم ، قال في الدنيا وهم كافرون .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن ، في قوله : ابن عباس لو يجدون ملجأ الآية قال : الملجأ الحرز في الجبال ، والمغارات : الغيران ، والمدخل : السرب .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن ، السدي وهم يجمحون قال : يسرعون .