وقال الحسن : إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم ، واختاره قتادة ، .
قيل في توجيهه : إن المنافقين كانوا أكثر من يفعل موجبات الحدود .
قال ابن العربي : إن هذه دعوى لا برهان عليها ، وليس العاصي بمنافق ، إنما المنافق بما يكون في قلبه من النفاق دائما لا بما تتلبس به الجوارح ظاهرا ، وأخبار المحدودين تشهد بسياقتها أنهم لم يكونوا منافقين .
قوله : واغلظ عليهم الغلظ : نقيض الرأفة ، وهو شدة القلب وخشونة الجانب ، قيل : وهذه الآية نسخت كل شيء من العفو والصلح والصفح .
ثم ذكر من خصال المنافقين أنهم يحلفون الأيمان الكاذبة ، فقال : يحلفون بالله ما قالوا .
وقد اختلف أئمة التفسير في سبب نزول هذه الآية ، فقيل : نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت ، ووديعة بن ثابت ، وذلك أنه لما كثر نزول القرآن في غزوة تبوك في شأن المنافقين وذمهم ، فقالا : لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم ساداتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير ، فقال له عامر بن قيس : أجل والله إن محمدا لصادق مصدق ، وإنك لشر من الحمار ، وأخبر عامر بذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وجاء الجلاس فحلف بالله إن عامرا لكاذب ، وحلف عامر لقد قال ، وقال : اللهم أنزل على نبيك شيئا فنزلت .
وقيل : إن الذي سمع ذلك عاصم بن عدي ، وقيل : حذيفة ، وقيل : بل سمعه ولد امرأته : أي امرأة الجلاس ، واسمه ، فهم عمير بن سعد الجلاس بقتله لئلا يخبر بخبره .
وقيل : إن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبي [ ص: 586 ] رأس المنافقين لما قال : ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، و لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ المنافقون : 8 ] فأخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك ، فجاء عبد الله بن أبي ، فحلف أنه لم يقله .
وقيل : إنه قول جميع المنافقين وأن الآية نزلت فيهم ، وعلى تقدير أن القائل واحد أو اثنان فنسبة القول إلى جميعهم هي باعتبار موافقة من لم يقل ولم يحلف من المنافقين لمن قد قال وحلف .
ثم رد الله على المنافقين وكذبهم وبين أنهم حلفوا كذبا ، فقال : ولقد قالوا كلمة الكفر وهي ما تقدم بيانه على اختلاف الأقوال السابقة وكفروا بعد إسلامهم أي كفروا بهذه الكلمة بعد إظهارهم للإسلام ، وإن كانوا كفارا في الباطن .
والمعنى : أنهم فعلوا ما يوجب كفرهم على تقدير صحة إسلامهم .
قوله : وهموا بما لم ينالوا قيل : هو همهم بقتل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلة العقبة في غزوة تبوك ، وقيل : هموا بعقد التاج على رأس عبد الله بن أبي ، وقيل : هو هم الجلاس بقتل من سمعه يقول تلك المقالة ، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - .
قوله : وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله أي وما عابوا وأنكروا إلا ما هو حقيق بالمدح والثناء ، وهو إغناء الله لهم من فضله ، والاستثناء مفرغ من أعم العام ، وهو من باب قول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
ومن باب قول الشاعر :ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحلمون إن غضبوا
وقد كان هؤلاء المنافقون في ضيق من العيش ، فلما قدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المدينة اتسعت معيشتهم وكثرت أموالهم .
قوله : فإن يتوبوا يك خيرا لهم أي : فإن تحصل منهم التوبة والرجوع إلى الحق يكن ذلك الذي فعلوه من التوبة خيرا لهم في الدين والدنيا .
وقد تاب الجلاس بن سويد ، وحسن إسلامه ، وفي ذلك دليل على قبول التوبة من المنافق والكافر .
وقد اختلف العلماء في قبولها من الزنديق ، فمنع من قبولها مالك وأتباعه ، لأنه لا يعلم صحة توبته إذ هو في كل حين يظهر التوبة والإسلام وإن يتولوا أي يعرضوا عن التوبة والإيمان يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا بالقتل والأسر ونهب الأموال وفي الآخرة بعذاب النار وما لهم في الأرض من ولي يواليهم ولا نصير ينصرهم .
وقد أخرج ، ابن إسحاق ، عن وابن أبي حاتم ، قال : كعب بن مالك لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين ، قال الجلاس : والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير ، فسمعها ، فقال : والله يا عمير بن سعد جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثرا ، وأعزهم علي أن يدخل عليه شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ، ولئن سكت عنها لتهلكني ، ولإحداهما أشد علي من الأخرى ، فمشى إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكر له ما قال الجلاس ، فحلف بالله ما قال ولكن كذب علي عمير ، فأنزل الله : يحلفون بالله ما قالوا الآية .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم ، نحوه . ابن عباس
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن قال : أنس بن مالك سمع رجلا من المنافقين يقول والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب : إن كان هذا صادقا لنحن شر من الحمير ، قال زيد بن أرقم زيد : هو والله صادق وأنت شر من الحمار ، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فجحد القائل ، فأنزل الله : يحلفون بالله ما قالوا الآية .
وأخرج ، ابن جرير والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ، قال : ابن عباس يحلفون بالله ما قالوا الآية . كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جالسا في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاءكم فلا تكلموه ، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : علام تشتمني أنت وأصحابك ؟ ! فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم ، وأنزل الله :
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم قتادة ، قال : ذكر لنا أن رجلين اقتتلا ، أحدهما من جهينة والآخر من غفار ، وكانت جهينة حلفاء الأنصار ، فظهر الغفاري على الجهني ، فقال عبد الله بن أبي للأوس : انصروا أخاكم ، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل [ المنافقون : 8 ] فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ، فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله : يحلفون بالله الآية ، وفي الباب أحاديث مختلفة في سبب هذه الآية ، وفيما ذكرناه كفاية .
وأخرج ، ابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، عن ، في قوله : ابن عباس وهموا بما لم ينالوا قال : هم رجل يقال له الأسود بقتل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن ، في قوله : السدي وهموا بما لم ينالوا قال : أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج .
وأخرج ، ابن ماجه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، عن ، قال : ابن عباس وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله قال : بأخذهم الدية . قتل رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فجعل ديته اثني عشر ألفا ، وذلك قوله :