فلعنة الله على الكافرين ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون
ولما جاءهم يعني اليهود كتاب يعني القرآن ، و مصدق وصف له ، وهو في مصحف أبي منصور ونصبه على الحال وإن كان صاحبها نكرة فقد تخصصت بوصفها بقوله : من عند الله وتصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل أنه يخبرهم بما فيهما ويصدقه ولا يخالفه .
والاستفتاح الاستنصار ، أي كانوا من قبل يطلبون من الله النصر على أعدائهم بالنبي المنعوت في آخر الزمان الذي يجدون صفته عندهم في التوراة ، وقيل : الاستفتاح هنا بمعنى الفتح ، أي يخبرونهم بأنه سيبعث ويعرفونهم بذلك ، وجواب " لما " في قوله : ولما جاءهم كتاب قيل : هو قوله : فلما جاءهم ما عرفوا وما بعده ، وقيل : هو محذوف ، أي كذبوا أو نحوه ، كذا قال الأخفش والزجاج .
وقال : إن جواب " لما " الأولى هو قوله : كفروا وأعيدت " لما " الثانية لطول الكلام ، واللام في ( الكافرين ) للجنس . المبرد
ويجوز أن تكون للعهد ويكون هذا من وضع الظاهر موضع المضمر ، والأول أظهر .
و ( ما ) في قوله : بئسما موصولة أو موصوفة ، أي بئس الشيء أو شيئا اشتروا به أنفسهم قاله . سيبويه
وقال الأخفش : " ما " في موضع نصب على التمييز كقولك : بئس رجلا زيد .
وقال الفراء : " بئسما " بجملته شيء واحد ركب كحبذا .
وقال : " ما " و " اشتروا " بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه ، والتقدير : بئس اشتراؤهم أن يكفروا . الكسائي
وقوله : أن يكفروا في موضع رفع على الابتداء عند وخبره ما قبله . سيبويه
وقال الفراء : إن شئت كان في موضع خفض بدلا من الهاء في " به " : أي اشتروا أنفسهم بأن يكفروا . والكسائي
وقال في الكشاف : إن " ما " نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ، بمعنى شيئا اشتروا به أنفسهم ، والمخصوص بالذم " أن يكفروا " ، و " اشتروا " بمعنى باعوا .
وقوله : بغيا أي حسدا .
قال : البغي مأخوذ من قولهم قد بغى الجرح : إذا فسد ، وقيل : أصله الطلب ولذلك سميت الزانية بغيا . الأصمعي
وهو علة لقوله : اشتروا وقوله : أن ينزل علة لقوله : بغيا أي لأن ينزل .
والمعنى : أنهم باعوا أنفسهم بهذا الثمن البخس حسدا ومنافسة أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وابن محيصن " أن ينزل " بالتخفيف .
فباءوا أي رجعوا وصاروا أحقاء بغضب على غضب وقد تقدم معنى باءوا ومعنى الغضب ، قيل : الغضب الأول لعبادتهم العجل ، والثاني لكفرهم بمحمد ، وقيل : كفرهم بعيسى ثم كفرهم بمحمد ، وقيل : كفرهم بمحمد ثم البغي عليه ، وقيل غير ذلك .
والمهين مأخوذ من الهوان ، قيل : وهو ما اقتضى الخلود في النار .
وقوله : بما أنزل الله هو القرآن ، وقيل : كل كتاب ، أي صدقوا بالقرآن أو صدقوا بما أنزل الله من الكتب قالوا نؤمن أي نصدق بما أنزل علينا أي التوراة .
وقوله : ويكفرون بما وراءه قال الفراء : بما سواه .
وقال أبو عبيدة : بما بعده .
قال الجوهري : ( وراء ) بمعنى خلف ، وقد يكون بمعنى قدام وهي من الأضداد .
ومنه قوله تعالى : وكان وراءهم ملك أي قدامهم ، وهذه الجملة أعني ويكفرون في محل النصب على الحال ، أي قالوا : نؤمن بما أنزل علينا حال كونهم كافرين بما وراءه مع كون هذا الذي هو وراء ما يؤمنون به هو الحق .
وقوله : [ ص: 76 ] مصدقا حال مؤكدة وهذه أحوال متداخلة أعني قوله : ويكفرون وقوله : وهو الحق وقوله : مصدقا ثم اعترض الله سبحانه عليهم لما قالوا : نؤمن بما أنزل علينا بهذه الجملة المشتملة على الاستفهام المفيد للتوبيخ ، أي إن كنتم تؤمنون بما أنزل عليكم فكيف تقتلون الأنبياء وقد نهيتم عن قتلهم فيما أنزل عليكم ؟ وهذا الخطاب وإن كان مع الحاضرين من اليهود فالمراد به أسلافهم ، ولكنهم لما كانوا يرضون بأفعال سلفهم كانوا مثلهم .
واللام في قوله : ولقد جواب لقسم مقدر .
و ( البينات ) يجوز أن يراد بها التوراة أو التسع الآيات المشار إليها بقوله تعالى : ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ويجوز أن يراد الجميع ، ثم عبدتم العجل بعد النظر في تلك البينات حال كونكم ظالمين بهذه العبادة الصادرة منكم عنادا بعد قيام الحجة عليكم .
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق قال : هو القرآن مصدق لما معهم من التوراة والإنجيل .
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل من طريق قال : حدثني أشياخ منا قالوا : لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا ، لأن معنا عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري يهود وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن ، وكانوا إذا بلغهم منا ما يكرهون قالوا : إن نبيا ليبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعناه وكفروا به ففينا والله وفيهم أنزل الله وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا .
وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس وناس من الصحابة قالوا : كانت العرب تمر وابن مسعود باليهود فيؤذونهم وكانوا يجدون محمدا في التوراة فيسألون الله أن يبعثه نبيا فيقاتلون معه العرب ، فلما جاء محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل .
وقد روي نحو هذا عن من غير وجه بألفاظ مختلفة ومعانيها متقاربة . ابن عباس
وروي عن غيره من السلف نحو ذلك .
وأخرج عبد بن حميد عن وابن جرير قتادة في قوله : بئسما اشتروا به أنفسهم قال : هم اليهود كفروا بما أنزل الله وبمحمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا للعرب فباءوا بغضب على غضب قال : غضب الله عليهم مرتين بكفرهم بالإنجيل وبعيسى وبكفرهم بالقرآن وبمحمد .
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس بغيا أن ينزل الله أي أن الله جعله من غيرهم فباءوا بغضب بكفرهم بهذا النبي على غضب كان عليهم بما صنعوه من التوراة .
وأخرج عن ابن جرير عكرمة نحوه .
وأخرج أيضا عن مجاهد معناه .
وأخرج عن ابن جرير أبي العالية في قوله : ويكفرون بما وراءه قال : بما بعده .
وأخرج عن ابن جرير قال : بما وراءه : أي القرآن . السدي