قوله : وما تلك بيمينك ياموسى قال الزجاج : إن تلك اسم ناقص وصلت بيمينك : أي ما التي بيمينك ؟ وروي عن والفراء الفراء أنه قال : تلك بمعنى هذه ، ولو قال ما ذلك لجاز : أي ما ذلك الشيء ؟ وبالأول قال الكوفيون .
قال : ومعنى سؤال الزجاج موسى عما في يده من العصا التنبيه له عليها لتقع المعجزة بها بعد التثبيت فيها والتأمل لها .
قال الفراء : ومقصود السؤال تقرير الأمر حتى يقول موسى هي [ ص: 907 ] عصاي لتثبيت الحجة عليه بعد ما اعترف ، وإلا فقد علم الله ما هي في الأزل ، ومحل ما الرفع على الابتداء ، وتلك خبره ، وبيمينك في محل نصب على الحال إن كانت تلك اسم إشارة على ما هو ظاهر اللفظ ، وإن كانت اسما موصولا كان بيمينك صلة للموصول .
قال هي عصاي قرأ ابن أبي إسحاق ( عصى ) على لغة هذيل . وقرأ الحسن ( عصاي ) بكسر الياء لالتقاء الساكنين أتوكأ عليها أي أتحامل عليها في المشي وأعتمدها عند الإعياء والوقوف ومنه الاتكاء وأهش بها على غنمي هش بالعصا يهش هشا : إذا خبط بها الشجر ليسقط منه الورق .
قال الشاعر :
أهش بالعصا على أغنامي من ناعم الأوراك والسنام
وقرأ النخعي ( أهس ) بالسين المهملة ، وهو زجر الغنم ، وكذا قرأ عكرمة ، وقيل : هما لغتان لمعنى واحد ولي فيها مآرب أخرى أي حوائج واحدها مأربة ومأربة ومأربة مثلث الراء ، كذا قال ابن الأعرابي وقطرب ، ذكر تفصيل منافع العصا ، ثم عقبه بالإجمال .وقد تعرض قوم لتعداد منافع العصا فذكروا من ذلك أشياء : منها قول بعض العرب : عصاي أركزها لصلاتي ، وأعدها لعداتي ، وأسوق بها دابتي ، وأقوى بها على سفري ، وأعتمد بها في مشيتي ، ليتسع خطوي ، وأثب بها النهر ، وتؤمنني العثر ، وألقي عليها كسائي ، فتقيني الحر ، وتدفيني من القر ، وتدني إلي ما بعد مني وهي تحمل سفرتي ، وعلاقة إداوتي ، أعصي بها عند الضراب ، وأقرع بها الأبواب ، وأقي بها عقور الكلاب ، وتنوب عن الرمح في الطعان ، وعن السيف عند منازلة الأقران ، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي بني انتهى .
وقد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين ، وذكر فيه أخبارا وأشعارا وفوائد لطيفة ونكتا رشيقة .
وقد جمع الله سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام والآيات الجسام ما أمن به من كيد السحرة ومعرة المعاندين ، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته وطول صلاته ، وكان صاحب عصا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعنزته وكان يخطب بالقضيب وكذلك الخلفاء من بعده ، وكان عادة ابن مسعود العرب العرباء أخذ العصا والاعتماد عليها عند الكلام ، وفي المحافل والخطب .
قال ألقها يا موسى هذه جملة مستأنفة جواب سؤال مقدر ، أمره سبحانه بإلقائها ليريه ما جعل له فيها من المعجزة الظاهرة .
فألقاها موسى على الأرض فإذا هي حية تسعى وذلك بقلب الله سبحانه لأوصافها وأعراضها حتى صارت حية تسعى : أي تمشي بسرعة وخفة ، قيل كانت عصا ذات شعبتين فصار الشعبتان فما وباقيها جسم حية تنتقل من مكان إلى مكان وتلتقم الحجارة مع عظم جرمها وفظاعة منظرها ، فلما رآها كذلك خاف وفزع وولى مدبرا ولم يعقب .
فعند ذلك قال سبحانه خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى قال الأخفش : التقدير إلى سيرتها ، مثل : واختار والزجاج موسى قومه [ الأعراف : 155 ] قال : ويجوز أن يكون مصدرا ، لأن معنى سنعيدها سنسيرها ، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل : أي سائرة ، أو بمعنى اسم المفعول : أي مسيرة .
والمعنى : سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي هي العصوية . قيل إنه لما قيل له لا تخف بلغ من عدم الخوف إلى أن كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحيها .
واضمم يدك إلى جناحك قال الفراء : جناح الإنسان عضده ، وقال والزجاج قطرب : جناح الإنسان جنبه ، وعبر عن الجنب بالجناح لأنه في محل الجناح ، وقيل : إلى بمعنى مع . أي مع جناحك ، وجواب الأمر تخرج بيضاء أي تخرج يدك حال كونها بيضاء ، ومحل من غير سوء النصب على الحال : أي كائنة من غير سوء ، والسوء العيب ، كنى به عن البرص : أي تخرج بيضاء ساطعا نورها تضيء بالليل والنهار كضوء الشمس من غير برص ، وانتصاب آية أخرى على الحال أيضا : أي معجزة أخرى غير العصا .
وقال الأخفش : إن آية منتصبة على أنها بدل من بيضاء . قال النحاس وهو قول حسن . وقال : المعنى آتيناك أو نؤتيك آية أخرى لأنه لما قال تخرج بيضاء دل على أنه قد آتاه آية أخرى . الزجاج
ثم علل سبحانه ذلك بقوله : لنريك من آياتنا الكبرى قيل والتقدير : فعلنا ذلك لنريك ، ومن آياتنا متعلق بمحذوف وقع حالا ، والكبرى معناها العظمى ، وهو صفة لموصوف محذوف ، والتقدير : لنريك من آياتنا الكبرى : أي لنريك بهاتين الآيتين يعني اليد والعصا بعض آياتنا الكبرى ، فلا يلزم أن تكون اليد هي الآية الكبرى وحدها حتى تكون أعظم من العصا ، فيرد على ذلك أنه لم يكن في اليد إلا تغير اللون فقط بخلاف العصا ، فإن فيها مع تغير اللون الزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة .
ثم صرح سبحانه بالغرض المقصود من هذه المعجزات فقال : اذهب إلى فرعون وخصه بالذكر لأن قومه تبع له ، ثم علل ذلك بقوله : إنه طغى أي عصى وتكبر وكفر وتجبر وتجاوز الحد .
وجملة قال رب اشرح لي صدري مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قال ؟ ومعنى شرح الصدر توسيعه ، تضرع عليه السلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله : ويضيق صدري ولا ينطلق لساني [ الشعراء : 13 ] .
ويسر لي أمري ومعنى تيسير الأمر تسهيله .
واحلل عقدة من لساني يعني العجمة التي كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل : أي أطلق عن لساني العقدة التي فيه ، قيل أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها بدليل قوله : قد أوتيت سؤلك ياموسى [ طه : 36 ] وقيل : لم تذهب كلها لأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية ، بل سأل حل عقدة تمنع الإفهام بدليل قوله : من لساني أي كائنة من عقد لساني ، ويؤيد ذلك قوله : هو أفصح مني لسانا [ القصص : 34 ] ، وقوله حكاية عن فرعون ولا يكاد يبين [ الزخرف : 52 ] .
وجواب الأمر قوله : يفقهوا قولي أي يفهموا كلامي ، والفقه في كلام العرب الفهم ، ثم خص به علم [ ص: 908 ] الشريعة والعالم به فقيه ، قاله الجوهري .
واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي الوزير الموازر كالأكيل المواكل لأنه يحمل عن السلطان وزره : أي ثقله : قال : واشتقاقه في اللغة من الوزر ، وهو الجبل الذي يعتصم به لينجى من الهلكة ، والوزير الذي يعتمد الملك على رأيه في الأمور ويلتجئ إليه . الزجاج
وقال : هو مشتق من الموازرة ، وهي المعاونة ، وانتصاب وزيرا الأصمعي وهارون على أنهما مفعولا اجعل ، وقيل : مفعولاه : لي وزيرا ، ويكون هارون عطف بيان للوزير ، والأول أظهر ، ويكون لي متعلقا بمحذوف : أي كائنا لي ، ومن أهلي صفة لوزيرا ، وأخي بدل من هارون .
قرأ الجمهور اشدد بهمزة وصل . و أشركه بهمزة قطع كلاهما على صيغة الدعاء : أي يا رب أحكم به قوتي واجعله شريكي في أمر الرسالة ، والأزر القوة ، يقال آزره : أي قواه ، وقيل : الظهر : أي اشدد به ظهري . وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحارث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق ( أشدد ) بهمزة قطع ( وأشركه ) بضم الهمزة أي أشدد أنا به أزري وأشركه أنا في أمري . قال النحاس : جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله اجعل لي وزيرا ، وقرأ بفتح الياء من ( أخي ) ابن كثير وأبو عمرو .
كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا هذا التسبيح والذكر هما الغاية من الدعاء المتقدم ، والمراد التسبيح هنا باللسان ، وقيل : المراد به الصلاة ، وانتصاب كثيرا في الموضعين على أنه نعت مصدر محذوف ، أو لزمان محذوف .
إنك كنت بنا بصيرا البصير المبصر والبصير العالم بخفيات الأمور ، وهو المراد هنا : أي إنك كنت بنا عالما في صغرنا فأحسنت إلينا فأحسن إلينا أيضا كذلك الآن .
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم في ابن عباس موسى قال : أعطاه إياها ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ، ويضرب بها الأرض فتخرج له النبات ، ويهش بها على غنمه ورق الشجر . عصا
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن وابن أبي حاتم عكرمة في قوله : وأهش بها على غنمي قال : أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف . وأخرج ابن المنذر في قوله : ولي فيها مآرب قال : حوائج . وأخرج وابن أبي حاتم ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر و عن ابن أبي حاتم مجاهد نحوه . وأخرج عن ابن أبي حاتم نحوه . وأخرج أيضا عن السدي قتادة قال : كانت تضيء له بالليل ، وكانت عصا آدم عليه السلام . وأخرج أيضا عن في قوله : فألقاها فإذا هي حية تسعى قال : ولم تكن قبل ذلك حية فمرت بشجرة فأكلتها ، ومرت بصخرة فابتلعتها ، فجعل ابن عباس موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبرا فنودي أن يا موسى خذها ، فلم يأخذها ، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف ، فقيل له في الثالثة : إنك من الآمنين فأخذها . وأخرج ابن المنذر عنه سنعيدها سيرتها الأولى قال : حالتها الأولى . وأخرجا عنه أيضا من غير سوء قال من غير برص . وأخرج وابن أبي حاتم ابن المنذر عن في قوله : ابن عباس واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي قال : كان أكبر من موسى . وأخرج عنه في قوله : ابن أبي حاتم وأشركه في أمري قال نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى .