لما سأل موسى ربه سبحانه أن يشرح له صدره وييسر له أمره ويحلل عقدة من لسانه ويجعل له وزيرا من أهله أخبره الله سبحانه بأنه قد أجاب ذلك الدعاء ، فقال : قد أوتيت سؤلك يا موسى أي أعطيت ما سألته ، والسؤال المسؤول : أي المطلوب كقولك : خبر بمعنى مخبور ، وزيادة قوله يا موسى لتشريفه بالخطاب مع رعاية الفواصل .
وجملة ولقد مننا عليك مرة أخرى كلام مستأنف لتقوية قلب موسى بتذكيره نعم الله عليه ، والمن الإحسان والإفضال . والمعنى : ولقد أحسنا إليك مرة أخرى قبل هذه المرة ، وهي حفظ الله سبحانه له من شر الأعداء كما بينه سبحانه هاهنا ، وأخرى تأنيث آخر بمعنى غير .
إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أي مننا ذلك الوقت وهو وقت الإيحاء فإذا ظرف للإيحاء ، والمراد بالإيحاء إليها إما مجرد الإلهام لها أو في النوم بأن أراها ذلك أو على لسان نبي أو على لسان ملك ، لا على طريق النبوة كالوحي إلى مريم أو بإخبار الأنبياء المتقدمين بذلك وانتهى الخبر إليها ، والمراد بـ ما يوحى ما سيأتي من الأمر لها ، أبهمه أولا وفسره ثانيا تفخيما لشأنه .
وجملة أن اقذفيه في التابوت مفسرة لأن الوحي فيه معنى القول ، أو مصدرية على تقدير بأن اقذفيه ، والقذف هاهنا الطرح : أي اطرحيه في التابوت ، وقد مر تفسير التابوت في البقرة في قصة طالوت فاقذفيه في اليم أي اطرحيه في البحر ، واليم : البحر أو النهر الكبير .
قال الفراء : هذا أمر وفيه المجازاة : أي اقذفيه يلقه اليم بالساحل والأمر للبحر مبني على تنزيله منزلة من يفهم ويميز ، لما كان إلقاؤه إياه بالساحل أمرا واجب الوقوع ، والساحل هو شط البحر ، سمي ساحلا لأن الماء سحله قاله والمراد هنا ما يلي الساحل من البحر لا نفس الساحل ، والضمائر هذه كلها ابن دريد ، لموسى لا للتابوت ، وإن كان قد ألقي معه لكن المقصود هو موسى مع كون الضمائر قبل هذا وبعده له ، وجملة يأخذه عدو لي وعدو له جواب الأمر بالإلقاء ، والمراد بالعدو [ ص: 909 ] فرعون ، فإن أم موسى لما ألقته في البحر وهو النيل المعروف ، وكان يخرج منه نهر إلى دار فرعون فساقه الله في ذلك النهر إلى داره ، فأخذ التابوت فوجد موسى فيه ، وقيل : إن البحر ألقاه بالساحل فنظره فرعون فأمر من يأخذه ، وقيل : وجدته ابنة فرعون ، والأول أولى وألقيت عليك محبة مني أي ألقى الله على موسى محبة كائنة منه تعالى في قلوب عباده لا يراه أحد إلا أحبه ، وقيل : جعل عليه مسحة من جمال لا يراه أحد من الناس إلا أحبه .
وقال : المعنى وألقيت عليك رحمتي : وقيل : كلمة من متعلقة بألقيت ، فيكون المعنى : ألقيت مني عليك محبة : أي أحببتك ، ومن أحبه الله أحبه الناس ولتصنع على عيني أي ولتربى وتغذى بمرأى مني ، يقال صنع الرجل جاريته : إذا رباها ، وصنع فرسه : إذا داوم على علفه والقيام عليه ، وتفسير على عيني بمرأى مني صحيح . قال ابن جرير النحاس : وذلك معروف في اللغة ، ولكن لا يكون في هذا تخصيص لموسى ، فإن جميع الأشياء بمرأى من الله . وقال أبو عبيدة : إن المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي ، تقول : أتخذ الأشياء على عيني : أي على محبتي . قال وابن الأنباري : العين في هذه الآية يقصد بها قصد الإرادة والاختيار ، من قول ابن الأنباري العرب : غدا فلان على عيني : أي على المحبة مني . قيل واللام متعلقة بمحذوف : أي فعلت ذلك لتصنع ، وقيل : متعلقة بألقيت ، وقيل : متعلقة بما بعده : أي ولتصنع على عيني قدرنا مشي أختك . وقرأ ابن القعقاع ( ولتصنع ) بإسكان اللام على الأمر ، وقرأ أبو نهيك بفتح التاء . والمعنى : ولتكون حركتك وتصرفك بمشيئتي ، وعلى عين مني .
إذ تمشي أختك ظرف لألقيت ، أو لتصنع ، ويجوز أن يكون بدلا من إذ أوحينا وأخته اسمها مريم فتقول هل أدلكم على من يكفله وذلك أنها خرجت متعرفة لخبره فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة ، فقالت لهما هذا القول : أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه ، فقالا لها ومن هو ؟ قالت أمي ، فقالا هل لها لبن ؟ قالت نعم لبن أخي هارون ، وكان هارون أكبر من موسى بسنة ، وقيل : بأكثر ، فجاءت الأم فقبل ثديها ، وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها ، وهذا هو معنى فرجعناك إلى أمك وفي مصحف أبي ( فرددناك ) ، والفاء فصيحة كي تقر عينها قرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد عنه ( كي تقر ) بكسر القاف ، وقرأ الباقون بفتحها .
قال الجوهري : قررت به عينا قرة وقرورا ، ورجل قرير العين ، وقد قرت عينه تقر وتقر . نقيض سخنت ، والمراد بقرة العين : السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم عليها فراقه ولا تحزن أي لا يحصل لها ما يكدر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب ، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرت عينها بزواله لقدم نفي الحزن على قرة العين ، فيحمل هذا النفي للحزن على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك ، ويمكن أن يقال إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين ، وقيل : المعنى : ولا تحزن أنت يا موسى بفقد إشفاقها ، وهو تعسف وقتلت نفسا المراد بالنفس هنا : نفس ، وكان قتله خطأ فنجيناك من الغم أي الغم الحاصل معك من قتله خوفا من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعا ، وقيل : الغم هو القتل بلغة القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه قريش ، وما أبعد هذا وفتناك فتونا الفتنة تكون بمعنى المحنة ، وبمعنى الأمر الشاق ، وكل ما يبتلى به الإنسان ، والفتون يجوز أن يكون مصدرا كالثبور والشكور والكفور : أي ابتليناك ابتلاء ، واختبرناك اختبارا ، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور في حجرة وبدور في بدرة : أي خلصناك مرة بعد مرة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته ، ولعل المقصود بذكر تنجيته من الغم الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل فلبثت سنين في أهل مدين قال الفراء : تقدير الكلام وفتناك فتونا ، فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل ، وكذا في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيرا من الكلام إذا كان المعنى معروفا ، ومدين هي بلد شعيب ، وكانت على ثماني مراحل من مصر ، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين ، وهي أتم الأجلين ، وقيل : أقام عند شعيب ثمان وعشرين سنة منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب ، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له ، والفاء فلبثت تدل على أن المراد بالمحن المذكورة هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبيا ، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة ، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به .
قال الشاعر :
نال الخلافة إذ كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر
وكلمة ثم المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدة ، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرق غنمه ونحو ذلك .واصطنعتك لنفسي الاصطناع : اتخاذ الصنعة ، وهي الخير تسديه إلى إنسان ، والمعنى : اصطنعتك لوحيي ورسالتي لتتصرف على إرادتي . قال : تأويله اخترتك لإقامة حجتي ، وجعلتك بيني وبين خلقي ، وصرت بالتبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتججت عليهم . قيل وهو تمثيل لما خوله الله سبحانه من الكرامة العظمى بتقريب الملك لبعض خواصه . الزجاج
اذهب أنت وأخوك أي وليذهب أخوك ، وهو كلام مستأنف مسوق لبيان ما هو المقصود من الاصطناع ومعنى بآياتي بمعجزاتي التي جعلتها لك آية ، وهي التسع الآيات ولا تنيا في ذكري أي لا تضعفا ولا تفترا ، يقال ونى يني ونيا : إذا ضعف .
قال الشاعر :
فما وني محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر
يسيح إذا ما السابحات على الونى أثرن غبارا بالكديد الموكل
اذهبا إلى فرعون إنه طغى هذا أمر لهما جميعا بالذهاب ، وموسى حاضر وهارون غائب تغليبا لموسى ، لأنه الأصل في أداء الرسالة ، وعلل الأمر بالذهاب لقوله : إنه طغى أي جاوز الحد في الكفر والتمرد ، وخص موسى وحده بالأمر بالذهاب فيما تقدم ، وجمعهما هنا تشريفا لموسى بإفراده ، وتأكيدا للأمر بالذهاب بالتكرير . وقيل : إن في هذا دليلا على أنه لا يكفي ذهاب أحدهما . وقيل : الأول أمر لموسى بالذهاب إلى كل الناس ، والثاني أمر لهما بالذهاب إلى فرعون . ثم أمرهما سبحانه بإلانة القول له لما في ذلك من التأثير في الإجابة ، فإن التخشين بادئ بدء يكون من ، والقول اللين هو الذي لا خشونة فيه ، يقال : لأن الشيء يلين لينا ، والمراد تركهما للتعنيف كقولهما هل لك إلى أن تزكى [ النازعات : 18 ] وقيل : القول اللين هو الكنية له ، وقيل : أن يعداه بنعيم الدنيا إن أجاب ، ثم علل الأمر بإلانة القول له بقوله : لعله يتذكر أو يخشى أي باشرا ذلك مباشرة من يرجو ويطمع ، فالرجاء راجع إليهما كما قاله جماعة من النحويين : أعظم أسباب النفور والتصلب في الكفر وغيره . سيبويه
وقد تقدم تحقيقه في غير موضع قال : لعل لفظة طمع وترج ، فخاطبهم بما يعقلون ، وقيل : لعل هاهنا بمعنى الاستفهام . والمعنى : فانظروا هل يتذكر أو يخشى ، وقيل : بمعنى كي . والتذكر : النظر فيما بلغاه من الذكر وإمعان الفكر فيه حتى يكون ذلك سببا في الإجابة ، والخشية هي خشية عقاب الله الموعود به على لسانهما ، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع . الزجاج
وقد أخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : فاقذفيه في اليم قال : هو النيل . وأخرج السدي عبد بن حميد عن وابن أبي حاتم في قوله : وألقيت عليك محبة مني قال : كان كل من رآه ألقيت عليه منه محبته . وأخرج ابن عباس ابن المنذر عن وابن أبي حاتم قال : حببتك إلى عبادي . وأخرج سلمة بن كهيل ابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ولتصنع على عيني قال : تربى بعين الله . وأخرج أبي عمران الجوني عبد الرزاق وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قتادة في الآية قال : لتغذى على عيني . وأخرج ابن المنذر عن في الآية قال : يقول أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت ، ثم في البحر ، وإذ تمشي أختك . وأخرج ابن جريج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب عن : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول : إنما قتل ابن عمر موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ يقول الله سبحانه : وقتلت نفسا فنجيناك من الغم قال : من قتل النفس وفتناك فتونا قال : أخلصناك إخلاصا . وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : وفتناك فتونا قال : ابتليناك ابتلاء . وأخرج ابن عباس ابن المنذر عنه قال : اختبرناك اختبارا . وقد أخرج وابن أبي حاتم عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أثرا طويلا في تفسير الآية ، فمن أحب استيفاء ذلك فلينظره في كتاب التفسير من سنن ابن عباس . وأخرج النسائي عن ابن جرير في قوله : ثم جئت على قدر قال : لميقات . وأخرج ابن عباس عبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد وقتادة على قدر قال : موعد . وأخرج ابن المنذر عن وابن أبي حاتم ولا تنيا قال : لا تبطئا . وأخرج ابن عباس عن ابن أبي حاتم علي في قوله : قولا لينا قال : كنه . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قال : كنياه . وأخرج ابن عباس ابن المنذر عنه في قوله : لعله يتذكر أو يخشى قال : هل يتذكر . وابن أبي حاتم