قرأ الجمهور أن يفرط بفتح الياء وضم الراء ، ومعنى ذلك : أننا نخاف أن يعجل ويبادر بعقوبتنا ، يقال فرط منه أمر : أي بدر ، ومنه الفارط ، وهو الذي يتقدم القوم إلى الماء : أي يعذبنا عذاب الفارط في الذنب ، وهو المتقدم فيه ، كذا قال . وقال أيضا : فرط منه أمر وأفرط : أسرف ، وفرط : ترك . المبرد
وقرأ ابن محيصن ( يفرط ) بضم الياء وفتح الراء : أي يحمله حامل على التسرع إلينا ، وقرأت طائفة بضم الياء وكسر الراء ، ومنهم ابن عباس ومجاهد وعكرمة من الإفراط : أي يشتط في أذيتنا .
قال الراجز :
قد أفرط العلج علينا وعجل
ومعنى أو أن يطغى قد تقدم قريبا .وجملة قال لا تخافا مستأنفة جواب سؤال مقدر ، نهي لهما عن الخوف الذي حصل معهما من فرعون ، ثم علل ذلك بقوله : إنني معكما أي بالنصر لهما ، والمعونة على فرعون ، ومعنى [ ص: 911 ] أسمع وأرى إدراك ما يجري بينهما وبينه بحيث لا يخفى عليه سبحانه منه خافية ، وليس بغافل عنهما . ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار .
فقولا إنا رسولا ربك أرسلنا إليك فأرسل معنا بني إسرائيل أي خل عنهم وأطلقهم من الأسر ولا تعذبهم بالبقاء على ما كانوا عليه ، وقد كانوا عند فرعون في عذاب شديد : يذبح أبناءهم ، ويستحيي نساءهم ، ويكلفهم من العمل ما لا يطيقونه ، ثم أمرهما سبحانه أن يقولا لفرعون قد جئناك بآية من ربك قيل هي العصا واليد ، وقيل : إن فرعون قال لهما : وما هي ؟ فأدخل موسى يده في جيب قميصه ، ثم أخرجها لها شعاع كشعاع الشمس ، فعجب فرعون من ذلك ، ولم يره موسى العصا إلا يوم الزينة والسلام على من اتبع الهدى أي السلامة . قال : أي من اتبع الهدى سلم من سخط الله - عز وجل - من عذابه ، وليس بتحية . قال : والدليل على ذلك أنه ليس بابتداء لقاء ولا خطاب . قال الزجاج الفراء : السلام على من اتبع الهدى ، ولمن اتبع الهدى سواء .
إنا قد أوحي إلينا من جهة الله سبحانه أن العذاب على من كذب وتولى المراد بالعذاب : الهلاك والدمار في الدنيا والخلود في النار ، والمراد بالتكذيب : التكذيب بآيات الله وبرسله ، والتولي : الإعراض عن قبولها والإيمان بها . قال فمن ربكما ياموسى أي قال فرعون لهما : فمن ربكما ؟ فأضاف الرب إليهما ولم يضفه إلى نفسه لعدم تصديقه لهما ولجحده للربوبية ، وخص موسى بالنداء لكونه الأصل في الرسالة ، وقيل : لمطابقة رءوس الآي .
قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه أي قال موسى مجيبا له ، وربنا مبتدأ ، وخبره الذي أعطى كل شيء خلقه ، ويجوز أن يكون ربنا خبر مبتدأ محذوف ، وما بعده صفته ، قرأ الجمهور خلقه بسكون اللام ، وروى زائدة عن أنه قرأ خلقه بفتح اللام على أنه فعل ، وهي قراءة الأعمش ابن أبي إسحاق ، ورواها نصير عن . فعلى القراءة الأولى يكون خلقه ثاني مفعولي أعطى . والمعنى : أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به المطابقة له كاليد للبطش ، والرجل للمشي واللسان للنطق ، والعين للنظر ، والأذن للسمع ، كذا قال الكسائي الضحاك وغيره . وقال الحسن وقتادة : أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه . وقال مجاهد : المعنى لم يخلق خلق الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا ، ومنه قول الشاعر :
وله في كل شيء خلقه وكذاك الله ما شاء فعل
قال فما بال القرون الأولى لما سمع فرعون ما احتج به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية كما لا يخفى من أن الخلق والهداية ثابتان بلا خلاف ، ولا بد لهما من خالق وهاد ، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا رب غيره . قال فرعون : فما بال القرون الأولى فإنها لم تقر بالرب الذي تدعو إليه يا موسى بل عبدت الأوثان ونحوهما من المخلوقات ، ومعنى البال الحال والشأن : أي ما حالهم وما شأنهم ؟ وقيل : إن سؤال فرعون عن القرون الأولى مغالطة لموسى لما خاف أن يظهر لقومه أنه قد قهره بالحجة : أي ما حال القرون الماضية ، وماذا جرى عليهم من الحوادث ؟ . فأجابه موسى ، قال علمها عند ربي أي : إن هذا الذي سألت عنه ليس مما نحن بصدده ، بل هو من علم الغيب الذي استأثر الله به لا تعلمه أنت ولا أنا . وعلى التفسير الأول يكون معنى علمها عند ربي أن علم هؤلاء الذين عبدوا الأوثان ونحوها محفوظ عند الله في كتابه سيجازيهم عليها ، ومعنى كونها في كتاب أنها مثبتة في اللوح المحفوظ .
قال : المعنى أن أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها ، والتقدير : علم أعمالها عند ربي في كتاب . وقد اختلف في معنى الزجاج لا يضل ربي ولا ينسى على أقوال : الأول أنه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين . وقد تم الكلام عند قوله في كتاب كذا قال . قال ومعنى لا يضل لا يهلك من قوله الزجاج أئذا ضللنا في الأرض [ السجدة : 10 ] ولا ينسى شيئا من الأشياء ، فقد نزهه عن الهلاك والنسيان . القول الثاني أن معنى لا يضل لا يخطئ . القول الثالث أن معناه لا يغيب . قال : أصل الضلال الغيبوبة . القول الرابع أن المعنى لا يحتاج إلى كتاب ، ولا يضل عنه علم شيء من الأشياء ، ولا ينسى ما علمه منها ، حكي هذا عن ابن الأعرابي أيضا . قال الزجاج النحاس : وهو أشبهها بالمعنى . ولا يخفى أنه كقول . القول الخامس أن هاتين الجملتين صفة لكتاب ، والمعنى : أن الكاتب غير ذاهب عن الله ولا ناس له . ابن الأعرابي الذي جعل لكم الأرض مهدا الموصول في محل رفع على أنه صفة لربي متضمنة لزيادة البيان ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أو في محل النصب على المدح . قرأ الكوفيون مهدا على أنه مصدر لفعل مقدر : أي مهدها مهدا ، أو على تقدير مضاف محذوف : أي ذات مهد ، وهو اسم لما يمهد كالفراش لما يفرش . وقرأ الباقون ( مهادا ) واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قال لاتفاقهم على قراءة : ألم نجعل الأرض مهادا [ النبأ : 6 ] قال النحاس : والجمع أولى من المصدر ، لأن هذا الموضع ليس موضع المصدر إلا على [ ص: 912 ] حذف المضاف . قيل يجوز أن يكون مهادا مفردا كالفراش ، ويجوز أن يكون جمعا ، ومعنى المهاد : الفراش فالمهاد جمع المهد : أي جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم وسلك لكم فيها سبلا السلك : إدخال الشيء في الشيء . والمعنى : أدخل في الأرض لأجلكم طرقا تسلكونها وسهلها لكم . وفي الآية الأخرى الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون [ الزخرف : 10 ] ثم قال سبحانه ممتنا على عباده وأنزل من السماء ماء هو ماء المطر ، قيل إلى هنا انتهى كلام موسى ، وما بعده هو فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى من كلام الله سبحانه ، وقيل : هو من الكلام المحكي عن موسى معطوف على أنزل ، وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة . ونوقش بأن هذا خلاف الظاهر مع استلزامه فوت الالتفات لعدم اتحاد المتكلم ، ويجاب عنه بأن الكلام كله محكي عن واحد هو موسى ، والحاكي للجميع هو الله سبحانه .
والمعنى : فأخرجنا بذلك الماء بسبب الحرث والمعالجة أزواجا : أي ضروبا وأشباها من أصناف النبات المختلفة . وقوله من نبات صفة لأزواجا ، أو بيان له ، وكذا شتى صفة أخرى له ، أي متفرقة جمع شتيت . وقال الأخفش : التقدير أزواجا شتى من نبات . قال : وقد يكون النبات شتى ، فيجوز أن يكون شتى نعتا ل ( أزواجا ) ويجوز أن يكون نعتا للنبات ، يقال أمر شت : أي متفرق ، وشت الأمر شتا وشتاتا تفرق واشتت مثله ، والشتيت المتفرق .
قال رؤبة :
جاءت معا وأطرقت شتيتا
وجملة كلوا وارعوا في محل نصب على الحال بتقدير القول : أي قائلين لهم ذلك ، والأمر للإباحة : يقال رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية : أي أسامها وسرحها يجيء لازما ومتعديا ، والإشارة بقوله : إن في ذلك لآيات لأولي النهى إلى ما تقدم ذكره في هذه الآيات ، والنهى العقول جمع نهية ، وخص ذوي النهى لأنهم الذين ينتهى إلى رأيهم ، وقيل : لأنهم ينهون النفس عن القبائح ، وهذا كله من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله : فمن ربكما ياموسى .والضمير في منها خلقناكم وما بعده راجع إلى الأرض المذكورة سابقا .
قال وغيره : يعني أن الزجاج آدم خلق من الأرض وأولاده منه . وقيل : المعنى : أن كل نطفة مخلوقة من التراب في ضمن خلق آدم ، لأن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه وفيها أي في الأرض نعيدكم بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض ، وجاء بفي دون إلى للدلالة على الاستقرار ومنها أي من الأرض نخرجكم تارة أخرى أي بالبعث والنشور وتأليف الأجسام ورد الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت ، والتارة كالمرة .
ولقد أريناه آياتنا كلها أي أرينا فرعون وعرفناه آياتنا كلها ، والمراد بالآيات هي الآيات التسع المذكورة في قوله : ولقد آتينا موسى تسع آيات [ الإسراء : 101 ] على أن الإضافة للعهد . وقيل : المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى ، والتي جاء بها غيره من الأنبياء ، وأن موسى قد كان عرفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء ، والأول أولى . وقيل : المراد بالآيات حجج الله سبحانه الدالة على توحيده فكذب وأبى أي كذب فرعون موسى وأبى عليه أن يجيبه إلى الإيمان ، وهذا يدل على أن كفر فرعون كفر عناد لأنه رأى الآيات وكذب بها كما في قوله : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ النمل : 14 ] .
وجملة قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى مستأنفة جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : فماذا قال فرعون بعد هذا ؟ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات : أي جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك ، والإيمان بما جئت به ، حتى تتوصل بذلك الإيهام الذي هو شعبة من السحر إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها . وإنما ذكر الملعون الإخراج من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى ، فإنه إذا وقع في أذهانهم وتقرر في أفهامهم أن عاقبة إجابتهم لموسى الخروج من ديارهم وأوطانهم كانوا غير قابلين لكلامه ولا ناظرين في معجزاته ولا ملتفتين إلى ما يدعو إليه من الخير .
فلنأتينك بسحر مثله الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام هي الموطئة للقسم : أي والله لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر ، حتى يتبين للناس أن الذي جئت به سحر يقدر على مثله الساحر فاجعل بيننا وبينك موعدا هو مصدر : أي وعدا ، وقيل : اسم مكان : أي اجعل لنا يوما معلوما ، أو مكانا معلوما لا نخلفه . قال القشيري : والأظهر أنه مصدر ، ولهذا قال : لا نخلفه أي لا نخلف ذلك الوعد ، والإخلاف أن تعد شيئا ولا تنجزه . قالالجوهري : الميعاد المواعدة والوقت الموضع ، وكذلك الموعد . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وشيبة ( لا نخلفه ) بالجزم على أنه جواب لقوله اجعل . وقرأ الباقون بالرفع على أنه صفة لموعدا : أي لا نخلف ذلك الوعد والأعرج نحن ولا أنت وفوض تعيين الموعد إلى موسى إظهارا لكمال اقتداره على الإتيان بمثل ما أتى به موسى ، وانتصاب مكانا سوى بفعل مقدر يدل عليه المصدر ، أو على أنه بدل من موعد . قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة سوى بضم السين ، وقرأ الباقون بكسرها وهما لغتان . واختار أبو عبيد وأبو حاتم كسر السين لأنها اللغة العالية الفصيحة ، والمراد مكانا مستويا ، وقيل : مكانا منصفا عدلا بيننا وبينك . قال : يقال سوى وسوى : أي عدل ، يعني عدلا بين المكانين . قال سيبويه زهير :
أرونا خطة لا ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء
وإن أبانا كان حل ببلدة سوى بين قيس قيس غيلان والفزر
والضحى قال الجوهري : ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى ، وهو حين تشرق الشمس ، وخص الضحى لأنه أول النهار ، فإذا امتد الأمر بينهما كان في النهار متسع . وقرأ ابن مسعود والجحدري ( وأن يحشر ) على البناء للفاعل : أي وأن يحشر الله الناس ضحى . وروي عن الجحدري أنه قرأ ( وأن نحشر ) بالنون وقرأ بعض القراء بالتاء الفوقية : أي ( وأن تحشر ) أنت يا فرعون ، وقرأ الباقون بالتحتية على البناء للمفعول . وقد أخرج عن ابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس إننا نخاف أن يفرط علينا قال : يعجل أو أن يطغى قال : يعتدي . وأخرج ابن المنذر عن في قوله : ابن جريج أسمع وأرى قال : أسمع ما يقول وأرى ما يجاوبكما به ، فأوحي إليكما فتجاوبانه . وأخرج ابن أبي شيبة عن وابن أبي حاتم قال : لما بعث الله ابن مسعود موسى إلى فرعون قال : رب أي شيء أقول ؟ قال : قل أهيا شرا هيا . قال الأعشى : تفسير ذلك الحي قبل كل شيء ، والحي بعد كل شيء . وجود السيوطي إسناده ، وسبقه إلى تجويد إسناده ابن كثير في تفسيره . وأخرج عن ابن أبي حاتم قتادة في قوله : على من كذب وتولى قال : كذب بكتاب الله وتولى عن طاعة الله . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن في قوله : ابن عباس أعطى كل شيء خلقه قال : خلق لكل شيء زوجه ثم هدى قال : هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس لا يضل ربي قال : لا يخطئ . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس من نبات شتى قال : مختلف .
وفي قوله : لأولي النهى قال : لأولي التقى . وأخرج ابن المنذر عنه لأولي النهى قال : لأولي الحجا والعقل . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قال : إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة ، فيخلق من التراب ومن النطفة ، وذلك قوله : عطاء الخراساني منها خلقناكم وفيها نعيدكم . وأخرج أحمد والحاكم عن أبي أمامة قال : - صلى الله عليه وآله وسلم - في القبر قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : أم كلثوم بنت رسول الله منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ، بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله وفي حديث في السنن لما وضعت منها خلقناكم ، ثم أخرى وقال : وفيها نعيدكم ، ثم أخرى وقال : ومنها نخرجكم تارة أخرى . وأخرج أنه أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال : سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن في قوله : ابن عباس موعدكم يوم الزينة قال : يوم عاشوراء . وأخرج ابن المنذر عن ابن عمرو نحوه .