لما فرغ - سبحانه - من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده أمر رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال : [ ص: 1184 ] ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن من للتبعيض ، والجلابيب جمع جلباب ، وهو ثوب أكبر من الخمار .
قال الجوهري الجلباب الملحفة ، وقيل : القناع ، وقيل : هو ثوب يستر جميع بدن المرأة ، كما ثبت في الصحيح من حديث أنها قالت : أم عطية ، قال يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ، فقال : لتلبسها أختها من جلبابها الواحدي : قال المفسرون يغطين وجوههن ورءوسهن إلا عينا واحدة ، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى .
وقال الحسن : تغطي نصف وجهها .
وقال قتادة : تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه ، والإشارة بقوله : ذلك إلى إدناء الجلابيب ، وهو مبتدأ وخبره أدنى أن يعرفن أي : أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر فلا يؤذين من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن ، وليس المراد بقوله : ذلك أدنى أن يعرفن أن تعرف الواحدة منهن من هي ، بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء ؛ لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر وكان الله غفورا لما سلف منهن من ترك إدناء الجلابيب رحيما بهن أو غفورا لذنوب المذنبين رحيما بهم فيدخلن في ذلك دخولا أوليا .
ثم توعد - سبحانه - أهل النفاق والإرجاف ، فقال : لئن لم ينته المنافقون عما هم عليه من النفاق والذين في قلوبهم مرض أي : شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب والمرجفون في المدينة عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم .
قال القرطبي : أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد ، والمعنى : أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين ، فهو على هذا من باب قوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
أي : إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة .
وقال عكرمة : الذين في قلوبهم مرض هم الزناة . وشهر بن حوشب
والإرجاف في اللغة : إشاعة الكذب والباطل ، يقال : أرجف بكذا : إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت ، من الرجفة وهي الزلزلة .
يقال : رجفت الأرض أي : تحركت وتزلزلت ترجف رجفا ، والرجفان : الاضطراب الشديد ، وسمي البحر رجافا لاضطرابه ، ومنه قول الشاعر :
المطعمون اللحم كل عشية حتى تغيب الشمس في الرجاف
والإرجاف واحد الأراجيف ، وأرجفوا في الشيء : خاضوا فيه ، ومنه قول شاعر :
فإنا وإن عيرتمونا بقلة وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
وقول الآخر :
أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور
وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا ، وتارة بأنهم قتلوا ، وتارة بأنهم غلبوا ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار ، فتوعدهم الله - سبحانه - بقوله : لنغرينك بهم أي : لنسلطنك عليهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك .
قال : قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية . المبرد
ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم أي : هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف .
قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل : في الآية .
وأقول : ليس هذا بحسن ولا أحسن ، فإن قوله ملعونين إلخ ، إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقتالهم ولا تسليط له عليهم ، وقد قيل : إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم ، وجملة لنغرينك بهم جواب القسم ، وجملة ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا معطوفة على جملة جواب القسم أي : لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا ، وانتصاب ملعونين على الحال كما قال وغيره ، والمعنى مطرودين أينما وجدوا وأدركوا المبرد أخذوا وقتلوا دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا تقتيلا وقيل : إن هذا هو الحكم فيهم وليس بدعاء عليهم ، والأول أولى .
وقيل : معنى الآية : أنهم أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم مطرودون .
سنة الله في الذين خلوا من قبل أي : سن الله ذلك في الأمم الماضية ، وهو لعن المنافقين وأخذهم وتقتيلهم ، وكذا حكم المرجفين ، وهو منتصب على المصدر .
قال : بين الله في الذين ينافقون الأنبياء ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا الزجاج ولن تجد لسنة الله تبديلا أي : تحويلا وتغييرا ، بل هي ثابتة دائمة في أمثال هؤلاء في الخلف والسلف .
يسألك الناس عن الساعة أي : عن وقت قيامها وحصولها ، قيل : السائلون عن الساعة هم أولئك المنافقون والمرجفون لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة استبعادا وتكذيبا وما يدريك يا محمد أي : ما يعلمك ويخبرك لعل الساعة تكون قريبا أي : في زمان قريب ، وانتصاب قريبا على الظرفية ، والتذكير لكون الساعة في معنى اليوم أو الوقت مع كون تأنيث الساعة ليس بحقيقي ، والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها ، وهو رسول الله ، فكيف بغيره من الناس ؟ وفي هذا تهديد لهم عظيم .
إن الله لعن الكافرين أي : طردهم وأبعدهم من رحمته وأعد لهم في الآخرة مع ذلك اللعن منه لهم في الدنيا سعيرا أي : نارا شديدة التسعر .
خالدين فيها أبدا بلا انقطاع لا يجدون وليا يواليهم ويحفظهم من عذابها ولا نصيرا ينصرهم ويخلصهم منها .
ويوم في قوله : يوم تقلب وجوههم في النار ظرف لقوله لا يجدون ، وقيل : ل خالدين ، وقيل : ل نصيرا ، وقيل : لفعل مقدر ، وهو اذكر .
قرأ الجمهور " تقلب " بضم التاء وفتح اللام على البناء للمفعول .
وقرأ عيسى الهمداني ، وابن أبي إسحاق " نقلب " بالنون وكسر اللام على البناء للفاعل ، وهو الله - سبحانه - .
وقرأ [ ص: 1185 ] عيسى أيضا بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم .
وقرأ أبو حيوة وأبو جعفر وشيبة بفتح التاء واللام على معنى تتقلب ، ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية : هو تقلبها تارة على جهة منها ، وتارة على جهة أخرى ظهرا لبطن ، أو تغير ألوانهم بلفح النار فتسود تارة وتخضر أخرى ، أو تبديل جلودهم بجلود أخرى ، فحينئذ يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا والجملة مستأنفة كأنه قيل : فما حالهم ؟ فقيل : يقولون ، ويجوز أن يكون المعنى يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا إلخ .
تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول وآمنوا بما جاء به لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون .
وهذه الألف في الرسولا ، والألف التي ستأتي في " السبيلا " هي الألف التي تقع في الفواصل ويسميها النحاة ألف الإطلاق ، وقد سبق بيان هذا في أول هذه السورة .
وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا هذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى ، والمراد بالسادة والكبراء هم الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم ، وفي هذا زجر عن التقليد شديد ، وكم في الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه ، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدي به وينصف من نفسه ، لا لمن هو من جنس الأنعام ، في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدة التعصب .
وقرأ الحسن ، وابن عامر " ساداتنا " بكسر التاء جمع سادة فهو جمع الجمع .
وقال مقاتل : هم المطعمون في غزوة بدر ، والأول أولى ، ولا وجه للتخصيص بطائفة معينة فأضلونا السبيلا أي : عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله ، والسبيل هو التوحيد .
ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا : ربنا آتهم ضعفين من العذاب أي : مثل عذابنا مرتين .
وقال قتادة : عذاب الدنيا والآخرة ، وقيل : عذاب الكفر وعذاب الإضلال والعنهم لعنا كبيرا قرأ الجمهور " كثيرا " بالمثلثة أي : لعنا كثير العدد عظيم القدر شديد الموقع ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس ، وقرأ وأصحابه ابن مسعود ، ويحيى بن وثاب وعاصم بالباء الموحدة أي : كبيرا في نفسه شديدا عليهم ثقيل الموقع .
وقد أخرج ، البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قال : بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها ، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها ، فرآها سودة عمر فقال : يا أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين ؟ قال : فانكفأت راجعة ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق ، فدخلت وقالت : يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي سودة عمر كذا وكذا ، فأوحي إليه ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده ما وضعه فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن . خرجت
وأخرج ، سعيد بن منصور وابن سعد ، ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم أبي مالك قال : كان نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخرجن بالليل لحاجتهن ، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين ، فقيل ذلك للمنافقين ، فقالوا : إنما نفعله بالإماء ، فنزلت هذه ياأيها النبي قل لأزواجك الآية .
وأخرج ابن سعد عن قال : كان رجل من المنافقين يتعرض لنساء المؤمنين ويؤذيهن ، فإذا قيل له ، قال كنت أحسبها أمة ، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من جلابيبهن تخمر وجهها إلا إحدى عينيها محمد بن كعب القرظي ذلك أدنى أن يعرفن يقول : ذلك أحرى أن يعرفن .
وأخرج ، ابن جرير ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن في هذه الآية قال : أمر الله نساء المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة . ابن عباس
وأخرج ، عبد الرزاق ، ، وعبد بن حميد وأبو داود ، وابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن قالت : لما نزلت هذه الآية أم سلمة يدنين عليهن من جلابيبهن خرج نساء الأنصار كأن رءوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها ، هكذا في الزوائد بلفظ من السكينة ، وليس لها معنى ، فإن المراد تشبيه الأكسية السود بالغربان ، لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما يقال : كأن على رءوسهم الطير .
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : رحم الله نساء الأنصار لما نزلت ياأيها النبي قل لأزواجك الآية شققن مروطهن ، فاعتجرن بها وصلين خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كأنما على رءوسهن الغربان .
وأخرج ، ابن جرير وابن مردويه عن في الآية قال : كانت الحرة تلبس لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن ، وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها . ابن عباس
وأخرج ابن سعد عن في قوله : محمد بن كعب لئن لم ينته المنافقون يعني المنافقين بأعيانهم والذين في قلوبهم مرض شك : يعني المنافقين أيضا .
وأخرج ابن سعد أيضا عن عبيد بن جبير قال : الذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة هم المنافقون جميعا .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس لنغرينك بهم قال : لنسلطنك عليهم .